مساء الجمعة الرابع من ماي، أي بعد يوم واحد فقط عن احتفال الجزائر كغيرها من الدول باليوم العالمي لحرية التعبير، كانت هنالك فئة مسلوبة الحرية تعبّر عن نفسها بشكل عنيف ومليء بالمفاجآت، هي فئة المساجين، وبالتحديد 20 سجينا بالمؤسسة العقابية لولاية سعيدة قيل إنهم أعادوا للسجون "سيناريوهات التمرد" التي عاشتها قبل سنوات قليلة، فأضرموا النار في أفرشتهم وأصيب بعضهم باختناقات... كان الوضع يدل أن شيئا ما وقع في سعيدة، لكن التحقيق الأولي دحض جميع تلك الإشاعات، وتبيّن أنه لم نكن هنالك لا نيران ولا اختناقات، فقط الغضب الذي دقت ساعته فجأة في القاعة رقم 02 لسجن سعيدة... الشروق اليومي زارت مكان الاحتجاج بحثا عن إجابات لأسئلة. لماذا؟ وكيف؟..ومتى بدأ وانتهى الاحتجاج؟.. سعيدة...والأسماء الخادعة! في يوم وصولنا لسعيدة، لم تفاجئنا حرارة الجو وسخونته التي أدخلت السعيديين في حالة طوارئ ، لأن الفصل هو فصل صيف واعد بكثير من الحرّ، ولم يلفت انتباهنا ذلك السكون المحيط بأهم مؤسسات الولاية من قصر العدالة إلى مقر الأمن الولائي،...لأننا ذهبنا في يوم عطلة وراحة للكثير منها،...لكن ما فاجأنا هو استيقاظ المدينة على فاجعة انتحار جديدة، بطلها "الذي خانته بطولته.. هذه المرة... هو شاب في السابعة والعشرين من العمر، لم يكوّن عائلته الصغيرة، لم يحصل على عمل شريف، لم تقنعه جميع وعود الرخاء التي يوّزعها يمينا وشمالا أولئك المعلقة صورهم في الجدران ويسمون أنفسهم أبناء الشعب وممثليه المزعومين، ولهذه الأسباب كلها، انتحر شنقا في جبل"...المشهد كان رهيبا وبشعا" حسبما وصفه لي زميلي فتحي، مراسل الشروق في سعيدة والذي حضر الحادثة ورسخت في ذهنه، مشهد ستطويه الأيام لاحقا دون أن يحاسب المسؤولون عن تكراره عشرات المرات في سعيدة وخلال فترة وجيزة، حينها أدركت أنني في مدينة يخدعك اسمها، وتصطدم ببؤسها مع أول خطواتك التي تشق الأحياء الفقيرة والجافة وكأنها بلا مسؤولين، وكأن المدينة دفعت فاتورة اسمها غاليا،"فإذا كان ذلك هو حال أحرارها خارج الأسوار، فكيف يعيش أولئك المكبلة حركتهم وحريتهم في السجن؟ "المحابسية"...هؤلاء المجهولون ! المؤسسة العقابية لسعيدة، الاسم وحده يكفي لأخذ فكرة عن طبيعة المكان ورهبته، هنالك خلف الجدران الإسمنتية والأسلاك الشائكة، يعيش من يسميهم المجتمع "المحابسية" أولئك الذين أدانتهم العدالة بأفعال ارتكبوها...لم يكن مشروع دخول "الشروق" إلى سجن سعيدة مبرمجا، لكن الأحداث المتلاحقة منذ يوم الجمعة الرابع من شهر ماي الجاري غيّر جميع المشاريع، وقفز بهذه المؤسسة العقابية التي أنشئت في منتصف السبعينيات إلى الواجهة...عند وصولنا إليها في يوم حار جدا، لاحظنا أن المكان يقع في دائرة شبه معزولة، فهناك على بعد أمتار قليلة منه توجد مدرسة أساسية، لا أدري ما إذا كان تلاميذها من الأطفال الصغار يعرفون جيدا ما معنى سجن وسجناء أو لا..؟..وأمامها مباشرة يوجد موقف للحافلات، وقد كان واضحا أن المؤسسة العقابية تحتل مساحة واسعة من المكان. قبل الدخول أخبرني الحراس أنهم كانوا بانتظاري منذ الصباح، لأخذنا مباشرة إلى مدير المؤسسة وهو السيد للوش منير، إداري يظهر من شكله الخارجي أنه في العقد الرابع، تسلم إدارة السجن في شهر فيفري الفارط فقط..فسألته مستفزا: إنها مدة غير كافية لمعرفة جميع المشاكل التي يتخبط فيها السجناء؟، فرد قائلا: "إنها مشاكل واحدة، تتشابه من ولاية إلى أخرى ونحن نسعى لحلها شيئا فشيئا مع الإصلاحات الجديدة... ولعل أهم تلك المشاكل هي الاكتظاظ الذي تعترف الوزارة الوصية أنه عدوى أصابت جميع المؤسسات العقابية ولم يتم العثور على دواء شافي له حتى الآن، سجن سعيدة لم يسلم من المشكلة، فهو يضم بين زنزاناته 590 سجين فيما تبلغ طاقة استيعابه 380 سجين، ...انه الاكتظاظ الذي يشعر السجناء أن الضيق بلغ الأنفاس وحبسها...، ومع ذلك أخبرنا المدير أن مؤسسته تفكر في توسيع مساحتها في الخلفية وأن المشروع الجديد يضم ملعبا وبعض المرافق الأخرى للموظفين والسجناء على حد سواء. عندما طلبنا من السيد للوش أن يسمح لنا بدخول السجن، أجابنا بأنه سيتعاون معنا كلية في هذا الإطار ماعدا "التصوير فهو ممنوع بتعليمة وزارية جديدة"... وبعد اتصالات مع الإدارة العامة للسجون سمح لنا بالتقاط صور قليلة ومختارة "بعناية" من طرف الجهات المسؤولة، وقد تصادف تجولنا خلف القضبان الحديدية مع موعد المناداة اليومية الثانية عند منتصف النهار... أحد أعوان السجن أخبرنا أن الأمر يتم ثلاث مرات يوميا، وأن السجناء يفرقون على مجموعتين، بعضهم ارتدى اللباس الأصفر، وهم المحكوم عليهم نهائيا، أما الآخرون فكانوا يرتدون ألبسة عادية،....قمصان صيفية، سراويل جينز وأخرى رياضية.. وبقوا تحت الشمس الحارقة أثناء المناداة في ساحة ليس من الصعب ملاحظة السياج المحيط بها من كل ناحية، كانوا تحت رقابة مشددة تلتقط حتى عدد أنفاسهم، آخرون حرص المدير على أن أراهم، وهم السجناء الذين كانوا متواجدين في قاعة الحلاقة حيث يمارسون المهنة التي تكوّنوا فيها، أو في المطبخ...حيث سألت أحد الأعوان عن طبق اليوم، فأجابني "حمص مع بعض المقبلات"... وكان المكان يبدو نظيفا وهو وضع طبيعي ودائم حسبما أكده لي المدير الذي حدثني طويلا عن نجاح العشرات في الامتحانات والمسابقات الخاصة بالباكالوريا والتكوين المهني رغم أننا حتى ونحن نستمع لذلك كنا نبحث عن شيء واحد لا ثاني له وهو الاحتجاج الذي وصفه البعض تمردا، عن أسبابه وعن نتائجه. سجن داخل السجن كانت الساعة تشير إلى حدود الخامسة مساء من يوم الجمعة الرابع من شهر ماي، وعقب مرور ساعات قليلة من المناداة اليومية، توزع بعض المساجين في أماكن مختلفة، بين قاعات الدراسة وأماكن الحلاقة...بعضهم الآخر أو الأغلبية كانت في القاعات، لكن كل شيء كان في القاعة الثانية التي تقع مباشرة بعد الجناح الإداري والقاعة الأولى إضافة إلى المطبخ...المساجين هناك قاموا في خطوة مفاجئة وغير متوقعة باحتجاج على مستوى قاعتهم، حركوا الأسرّة من أمكنتها ووضعوها مباشرة وراء الباب...عددهم لم يكن يتجاوز أكثر من 20 سجينا، أغلقوا القاعة لمدة ثلاثة أيام كاملة، أي من مساء الجمعة إلى غاية يوم الأحد، وذلك في غياب مدير السجن والنائب العام اللذين كانا متواجدين في العاصمة في إطار مهمة رسمية...الحوار بين أطراف الأزمة لم ينجح في توقيف الاحتجاج الا عقب ثلاثة أيام، سألت السيد للوش: إلى ماذا انتهى الحوار؟ هل اقتنع المحتجون بتوقيف حركتهم هكذا دون مكاسب؟... أجابني المدير قائلا : لقد انتهى الاحتجاج بإعطاء ضمانات إضافية للسجناء من أجل معالجة مشكلتهم حالا خصوصا تلك المتعلقة بترحيلهم إلى مؤسسات عقابية قريبة من مقر سكناهم ليتمكنوا من رؤية عائلاته خلال الزيارات...، لكن هل ما كان يوم الجمعة الماضية واستمر ثلاثة أيام احتجاجا أو تمردا وما حقيقة الإصابات التي نتجت عنه وحالات الاختناق التي تم تسجيلها؟...رد نفس المتحدث بالنفي :لا يوجد من ذلك أي شيء حقيقي، لا اختناقات، ولا إصابات ..فقط احتجاج تم إنهاؤه سلميا بواسطة الحوار ومازال التحقيق ساري المفعول حيث لا نستبعد وجود خلفيات وراء ما وقع من طرف هؤلاء المساجين المشوشين.... وعند وصف المشوشين سألت المدير الذي يواجه أول احتجاج من نوعه منذ تسلمه المسؤولية إن كانت هنالك إجراءات أخرى تم اتخاذها ضدهم، فقال لي "لقد عزلناهم إلى غاية انتهاء التحقيق.... ولاشك أن هذه الإجابة قضت على كل أمل لي بالتحاور معهم مباشرة لكنني عرفت فيما بعد أن هؤلاء المساجين ينحدرون من عدة ولايات بعيدة مثل تبسة وبعض ولايات الجنوب الغربي، وقد قدموا عدة طلبات بالتحويل سلميا لكنها بقيت حبيسة الأدراج والظروف إلى غاية الانفجار الذي لم ينتظر أحدا وقوعه. القاعة ..الشبح ! لم تمانع إدارة المؤسسة العقابية عند ولوجنا القاعة رقم 02 التي كانت مسرحا للاحتجاج من التقاط صورتين لها..كان المكان رهيبا رغم نظافته، لم تكن هنالك أي علامات تدل على وقوع حريق أو ما يشبه ذلك..هنا داخل هذه القاعة تمرد 20 سجينا وقاموا بحجز زملائهم كرهائن لمدة ثلاثة أيام كاملة وإلى غاية تنفيذ جميع مطالبهم، الأمر كان مفاجئا حتى بالنسبة إلى الأعوان المتعودين على الحراسة في ذلك المساء، فجأة قاموا باستدعاء مساعدات من المؤسسة العقابية الأقرب وهي تلك الواقعة في ولاية معسكر...المدير برر ذلك بقوله "إنه أمر طبيعي خوفا من وقوع تداعيات... في اليوم الذي سبق سفره إلى العاصمة قال لنا المدير إنه استقبل 25 سجينا طرحوا مختلف مشاكلهم، بدءا من غياب توضيحات حول العفو الرئاسي، وكذا مطالب بالإفراج المشروط..ثم المطالبة بالترحيل إلى سجون قريبة من أهلهم،...انه المطلب الذي تحول إلى قنبلة موقوتة انفجرت سريعا في وجه المسؤولين، واستدعت فتح تحقيق لمعرفة الملابسات، خصوصا أن الإدارة العامة لم تستبعد وجود أسباب قد تكون سياسية موازاة مع الظرف الانتخابي الراهن، ...القاعة تم إخراج جميع ما فيها من أسرّة تقرر تثبيتها في الأرض، وشاهدنا أيضا كيف تم إخراج جميع الأفرشة ورميها رغم أن المسؤولين هنا قالوا لنا إنها غير قابلة للاشتعال وهي نوعية تم استعمالها منذ سنوات التمرد المشهورة... كان صعبا معرفة ميول هؤلاء المساجين إلى العنف، دون أن نلتقي بهم أو نستمع إليهم وجها لوجه ودون حضور الإدارة،...التعليمات الصارمة منعتنا وحدّت من تحركاتنا داخل هذه المؤسسة العقابية التي تعد "الشروق" أول جريدة تدخل إليها بعد الاحتجاج الأخير، لكن رغم ذلك حاولنا الاستفادة من الصور والرسومات التي خطها هؤلاء المساجين وبينهم 21 امرأة...رسومات تنوعت بين المواضيع الدينية والطبيعية لكن الرسم الأهم الذي تكرر هو ذلك الطائر المقبوض بين الأيدي البشرية فلا يستطيع ممارسة حياته بحرية...حتى القصائد أو المحاولات الشعرية التي كتبها هؤلاء "المحابسية" دلت على ندم شديد مما ارتكبوه وأوصلهم إلى هنا، خلف القضبان الحديدية...إحدى القصائد لسجينة تشكو فيها حنينها لأهلها وتكرر دائما عبارة "يا ويح للي مادار للزمان عقوبة...وأخرى تتحدث عن الشوق ولوعة الفراق... في خارج السجن الذي تعامل فيه معنا الأعوان بصرامة وغلظة فرضتها عليهم طبيعة مهمتهم، تعرفنا على عمي بوعزة، رجل في العقد السادس من العمر، يعمل بسجن سعيدة منذ 1977... الخبر كان مثيرا لي لكي أسأله "يا عمي بوعزة، كيف تقارن سجناء اليوم بسجناء الأمس عند بدايتك؟..أجابني بسرعة "الفرق كبير... أنت تعيش خارجا وفي وسط المجتمع، إن كانت جريمة اليوم تشبه جريمة الأمس، حينها لا تسألني عن السجناء وطباعهم فالجواب سيكون واضحا... عند هذه الكلمة التي أنهى بها عمي بوعزة حديثه وأنهيت بها عملي في السجن، تذكرت الشاب الذي انتحر شنقا في ذلك الصباح، وتأكدت أن أسماء المدن تخدعنا أحيانا، مثل سعيدة تماما. مبعوث الشروق إلى سعيدة: قادة بن عمار