في الوقت الذي كانت عائلة الأسد تسعى لأن تحميها الأغلبية في الداخل، فإنها سعت لأن تحميها دول الإقليم فأقامت شبكة من العلاقات الدولية الإقليمية، وقضايا الإقليم على أساس موقف الدول الاستعمارية الكبرى من هذه القضايا ومن هذه الدول، وقد بدأ ذلك في وقت مبكر بالتدخل في لبنان لحماية حزب الكتائب اللبناني من الحركة الوطنية اللبنانية، فأدخل قواته واغتال كمال جنبلاط زعيم هذه الحركة وأرضى ذلك كلا من السعودية وفرنسا وأمريكا وإسرائيل، وتقدم الأسد خطوة في إرضاء هذه القوى التي قدمت له غطاء عربيا باسم "قوات الردع" ليصلي الفلسطيين نيرانا حامية ويبيد مخيم تل الزعتر، ثم ليتفرج في عام 1982 على شارون وهو يقود الجيش الاسرائيلي ليخرج المقاومة الفلسطينية من لبنان، ثم يسكت تماما عن مجزرة صبرا وشاتيلا.. لكن حين أراد الكتائبيون التفرد بلبنان انقلب عليهم وعلى بشير الجميل ثم أمين الجميل، لأن ياسر عرفات من منفاه في تونس بدأ يدخل اللعبة الدولية، وهو الأقدر من حافظ الأسد أو أية شخصية عربية لإرضاء هذه الدول الكبرى لأنه يملك الورقة الفلسطينية، وظهر أن إسرائيل نفسها التي كانت ولا زالت راضية عن تجميد عائلة الأسد للجبهة في الجولان، موافقة على أن تقترب من عرفات وتبتعد عن الأسد وكان من نتائج هذا المشي في أخدود العلاقات الدولية. 1- توتر العلاقات السورية - العراقية إرضاء لأمريكا ودول الخليج على حساب العلاقات مع فرنسا والسوفيت. 2- تقارب شديد مع إيران الخمينية ارضاء لفرنسا على حساب العلاقات مع أمريكا. 3- تمكين لحزب الله الشيعي في الجنوب اللبناني على حساب بقايا المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، إرضاء لحزب الكتائب اللبناني. 4- تذبذب العلاقات الأردنية - السورية 5- دخول الحرب ضد صدام حسين في العراق إرضاء للدول الكبرى ودول الخليج العربي. 6- إبعاد حزب العمال الكردستاني إرضاء لتركيا وأمريكا على حساب العلاقات مع الاتحاد السوفياتي وفرنسا، واقترابا من الطائفة العلوية في لواء الاسكندرون الخاضع لتركيا الذي ضمنته فرنسا إلى تركيا في ثلاثينيات القرن العشرين. وكما أتلفت حماة حسابات عائلة الأسد في الشبكة المحلية، قام ياسر عرفات بتوقيعه اتفاقية أوسلو 1983 بإتلاف حسابات هذه العائلة في الشبكة الاقليمية الدولية، فقد استلم عرفات أقوى قضية اقليمية تهم دول الإقليم والدول الكبرى بكلتا يديه، ومنذ ذلك الوقت بدا نظام عائلة الأسد أمام الدول الكبرى والاقليمية كحصان يشيخ.. بل إن الفصائل الفلسطينية التي دعمها لتقزيم عرفات بدت وكأنها تستثمره لصالح مشروع عرفات الاستراتيجي غير المعلن، فعرفات لم يغادر لبنان ولم يدخل الضفة الغربية، قبل أن يدفع صديقه وزميل دراسته الشيخ أحمد ياسين لتأسيس حركة حماس السنية. صحيح جدا أن عائلة الأسد تمكنت خلال هذه العقود من تحقيق ثراء فاحش، ومن تغيير تركيبة الجيش الاجتماعية والسياسية، وتشديد قبضتها على كل مفاصل المجتمع، لكنها أصبحت نظاما لا تقبل به غالبية الدول سواء في المنطقة أو في العالم. وفقدت العائلة فرصتها الذهبية بمجيء بشار الأسد وإعلانه أنه سيبدأ عهد انفتاح سياسي واقتصادي وإعلامي فلم توافق العائلة وتمسكت بنهجها زمن الأسد الأب، فانشق خدام، وألغيت زيارة لعرفات في اللحظة الأخيرة، وصودر العدد الثاني من أسبوعية "الدومري" التي أسسها رسام الكاريكاتير علي فرزت بطلب من صديقه بشار الأسد، ودخلت العائلة بالكامل تحت العباءة الإيرانية، وغيرت دول الخليج موقفها فسحبت معها الموقف السني، وصارت المواجهة بين العائلة من جهة والشعب والدول الاقليمية منها والكبرى. . الحراك الاجتماعي السوري في مطلع 2011 كانت النظم العربية بما فيها النظام السوري كثمرات فاسدة على شجرة كبيرة، لا تحتاج إلا لمن يهز هذه الشجرة حتى تتساقط تباعا أو مرة واحدة، فقد وصلت هذه الأنظة وهي في حقيقتها نظام قمعي واحد.. قد وصلت إلى آخر عمرها الإضافي، أما الافتراضي فقد انتهى منذ عقود طويلة، فهي لم تعد قادرة على تقديم أي شيء سواء كان اقتصاديا أو ثقافيا أو اجتماعيا، أما سياسيا فإن هذه الأنظمة فقدت حتى خطابها الاعلامي، وبالتالي لم يعد أحد يرغب في استمرارها لا الشعوب العربية ولا الإسلامية، وحتى إسرائيل لم تعد بحاجة إليها بعد أن أخذت تتعامل مباشرة مع الفلسطينيين، وأما الدول الكبرى فلم يعد حتى النفط يغريها بالمحافظة على هذه الكتلة الهائلة من الفساد، وهذا العمق في التروي والشلل التام في الحركة فأعدت عدتها لوضع خطتها "الشرق الأوسط الجديد" موضع التنفيذ، واتضح للمراقبين أن الوضع برمته في الوطن العربي هو وضع السباق بين الشعب والدول الكبرى لهز الشجرة العربية فتتساقط هذه الثمرات الفاسدات التي تسمى دولا. وفي أواخر عام 2010 قام التونسي بوعزيزي بهز هذه الشجرة فما هي إلا أسابيع حتى تحول اسم الرئيس التونسي من زين العابدين إلى زين الهاربين.. لكن ليس بفعل حركة الشعب التونسي التي صنعها بوعزيزي، بل أيضا بفعل حركة الدول الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة وحرف حركة الشعب عن أهدافها الحقيقية وتكرر المشهد ذاته في مصر وليبيا واليمن. ولم تكن سورية بعيدة، ولكنها كانت المقصود الأول في خطة "الشرق الأوسط" وحين وصل التأثير البوعزيزي التونسي السلمي إلى درعا جنوب سوريا بمحاذاة الأردن، سرعان ما نقل إلى حمص أواسط سورية وبعيدا عن دمشق والأردن، ونقل نقلا مسلحا، وظهر برهان غليون ابن حمص الذي يعيش في فرنسا منذ عقود على رأس معارضة لا يعرفها أحد. وبدأ الشبان السوريون المحرومون من كل شيء حتى الأمل تكتيل أنفسهم على شكل مجموعات تسلح بأي شيء مثل العصي والهراوات وتحطم تماثيل الرئيس الحالي والأب ويزيلون الصور ويكتبون على الحيطان في ظاهرة يحكم أن نطلق عليها "الرجل البخاخ" وأما النظام فوسع من القصف والقتل والتدمير، وبدأت ظاهرة الجيش الحر الذي يتكون من هؤلاء الشبان، وأخذت المعارضة في الخارج تستثمرهم وتستعمل ورقة التسليح الذي صاروا بأمس الحاجة إليه، ودخل الملعب السوري لاعبون كثر محليون وإقليميون ودوليون.. وكلهم يستغل موقف الشباب السوري الرافض للنظام وحلفائه والرافض للمعارضة التي يجهل أهدافها يراها لعبة بيد الدول.. وهو لم يجد بعد قيادة جادة تنبثق من صفوفه، وهو ما يعوّل عليه ويأمل به.. وفي فترة الانتظار هذه بدأ الشبان السوريون في كل من دمشق وحلب يخوضون معارك قاسية. فكانت معركة دمشق قد بدأت يوم الأول من جويلية وكان من ميادينها بلدة يلدا التي أسكنها ومنذ أول جويلية حتى 26 أوت تاريخ وصولي إلى الجزائر عشت وزوجتي تحت القصف المباشر لجيش النظام، وكان أصدقاء وأقارب من العاصمة والبويرج وغيرها يتصلون بي ويسمعون أصوات القذائف والصواريخ وكل ما استطعت فعله سواء في الملجأ - المدرسة أو في البيت هو تدوين يومياتي ساعة بساعة، وكنت من قبل قد دونت يومياتي خلال العشرية السوداء، وقبلها دونت يومياتي خلال مجازر سبتمبر التي قام بها النظام الأردني عام 1970 ضد المقاومة والشعب الفلسطيني. وينصحني بعض الأصدقاء اليوم بنشر يومياتي عن معركة دمشق وكيف كنت أمشي بين الجثث في شارع المالكي، سوق الثلاثاء في بلدة يلدا التي يمتهن أهلها تربية الأبقار ولا يعرفون من السياسة التي فرغها صحنها شيئا، فذاقوا الموت بأنواعه.