رأينا في مقال سابق كيف استطاعت التجربة الإسلامية للحكم في عهدها الأول أن تجعل الممارسة السياسية على قدر كبير من الأخلاق التي تُجنِّب رجل السياسة السقوطَ في حتمية الميل لسوء استعمال السلطة لمن يستلمها كما افترض الفيلسوف “مونتسكيو” أو استعمال القوة للمحافظة عليها كما أوصى “ماكيافيلي” السلاطين بذلك. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن تَحْيِين تلك التجربة وتقديمها من جديد؟ ولماذا لم تظهر تلك النماذج من الحكام في البلدان الإسلامية التي تدّعي أنها تحكِّم الإسلام أو أنّ مرجعياتها إسلامية؟ بل بالعكس نرى أن أغلب من استولوا على الحكم في البلدان الإسلامية يمثلون أسوء النماذج من فرط فسادهم وسوء أخلاقهم ما جعل بلدانهم في ذيل ترتيب الدول من حيث النموّ وفي أوله من حيث الفساد والاستبداد. ابتداء يجب التأكيد على أن ادّعاء المرجعية الإسلامية وتبنى شعاراتها يُحقِّق غرضين للسّلطات القائمة في البلدان الإسلامية: ا- تلبية عاطفة الجماهير إذ يسهل التسلط عليها باسم الدين. ب- التحكم في المجال الدعوي والخطاب الديني بدعوى أن “الإسلام دين الدولة” كمن يمتلك شيئا يتحكم فيه كما يشاء. المشكلة إذا تكمن في النخب السياسية والعسكرية التي ينحدر منها الحكام والتي فقدت في أغلبها صلتها بماضيها وثقافتها الأصلية وتشبعت بثقافة جلادها بالأمس، فراحت تحاكي في بلدانها نماذج الحكم في الحضارة الحالية بشقيها الغربي الرأسمالي والشرقي الشيوعي، بالرغم مما عانت شعوبها أثناء فترة الاحتلال من انحرافاتها الأخلاقية والقيمية السافرة حين كان يُعامل سكان المستعمَرات كعبيد في أرضهم لا يمكن أن يجري عليهم قانون السادة البيض لأنهم دون البشر كما يعلنها صراحة “الكسيس دي طوكفيل” أحد رجال السياسة ومنظري الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر بقوله:»… يمثل الإنسان الأوروبي بالنسبة للأجناس الأخرى ما يمثله الإنسان بالنسبة للحيوان« (4) ما يعني أن الفرق بين الأوروبي وغيره كالفارق بين الإنسان والحيوان، ولقد أقرَّ ذلك عددٌ من الكتاب والأكاديميين الغربيين (5). وفي العصر الحديث سنة 2008 أقرّ الرئيس الفرنسي الأسبق “جاك شيراك” بالمعاملة غير الأخلاقية التي كان الغرب يتعامل بها مع الشعوب التي كان يحتلها واعترف “إن بلاده بنت ثروتها على استغلال الشعوب الإفريقية وأن عليها أن تردّ لتلك الشعوب الفقيرة بعض ما أخذ منها ….”(6) ويؤكد ذلك نائب رئيس الحكومة الايطالية حاليا باتهامه فرنسا باستغلالها المستمر لمستعمراتها السابقة إلى درجة تحكمها في عملة 14 دولة افريقية؛ وذلك طبعا بالإبقاء، بكل أنواع الحيل والقوة الناعمة بل بالتدخل السافر أحيانا، على عملائها في هرم السلطة في تلك البلدان. حدث ذلك التقليد الأعمى لنمط الحكم العاري من الأخلاق بالرغم من أن اغلب السياسيين الذين حكموا بعد الاستقلال كانوا من نتاج حركات التحرر الوطني الثائرين عن المظالم التي عانت من جرائها بلدانُهم الفقر والأمراض والجهل، إلا أن عقلية التابع المهزوم ظلّت تلاحقهم، وهذا يدل على أن ذهنية القابلية للاستعمار لم تزل برحيل المستعمِر الذي أصبح المثالَ الواجب تقليده. تجدر الإشارة أن في أغلب البلدان التي عانت من الاستعمار اختارت أو بالأحرى جُرَّتْ تلك النخب إلى النموذج الشيوعي للحكم بسبب “عدائه ظاهريا” للاستعمار الغربي ولشعارات التحرر الذي كان يرفعها زورا لأن التاريخ يثبت أن منظريه -ماركس وانجلز- باركا الحملات الاستعمارية على الجزائر بالذات حيث يرى فريدريك انجلز أن “احتلالها مرادفٌ للتقدُّم والحضارة”، كما كان ذلك المعسكر يمارس أبشع أنواع الاستعمار إذ كانت روسيا تحتلّ مباشرة كل شعوب آسيا الوسطى وبعض دول أوروبا الشرقية ومهيمنة على كثير من الدول الأوروبية الأخرى وأغلب دول البلقان، وكان نظامُ الحكم يقوم على الحزب الواحد وقمع الحريات ومحاربة الدين والإباحية المقنَّعة بالحرية الفردية، فكان نظاما مبنيا على الاستبداد والفساد الأخلاقي والقيمي ما جعله ينهار ولم يحقق أي من شعارات العدالة وتوزيع ثروات المجتمع بالتساوي بين أفراده والتي كان يرفعها، وقد انكشفت سوأته بعد انهياره وظهرت للعلن الفوارق التي كانت مفروضة بين طبقة الحكام والمحكومين ثم بين الشعوب المكوِّنة لذلك المعسكر. وللتأكيد على فقدان الأخلاق في الممارسات السياسية لما كان يسمى المعسكر الشيوعي الذي قام على شعار “عمال العالم اتحدوا” ضد استغلال رأس المال للطبقة الكادحة، دولة الصين الحالية التي تمارس النفاق السياسي والأخلاقي في الاقتصاد إذ لم تحقق تلك الطفرة الاقتصادية التي تبهر العالم اليوم إلا بإطلاق يد رجال الأعمال لاستغلال العمال الذين ليس لهم أي حق في إقامة نقابات تدافع عن حقوقهم أو حق التظاهر أو التحزُّب بحجَّة أن الحزب الشيوعي الحاكم هو الراعي لحقوقهم، ومن زار الصين يرى بأم عينيه الفروق الطبقية الفاضحة بين طبقة الأثرياء الجدد التي أفرزت حوالي أربع مئة (400) ملياردير داخل الصين عدا المليارديرات الصينيين في الخارج، ليحتلوا المرتبة الثانية بعد عدد أقرانهم في أمريكا (7). على هذا الأساس قامت دول ما بعد الاحتلال في البلدان الإسلامية عموما بشقيها الرأسمالي المتوحش في المملكات العائلية أو الاشتراكي الزائف في جمهوريات الاستبداد حيث يسود الطابع غير الأخلاقي للحكم وأبرز سماته أن الحاكم، ملكا كان أو رئيسا، فوق القانون ولا يخضع لأي مساءلة مهما فعل، فضلا عن انعدام العدل والمحسوبية ونهب المال العام دون خوف ولا حياء من قبل حاشيته. المشكل إذن مرتبط أساسا بالقرار الخطأ للنخب “الوطنية” في فرضها أسوء أنماط الحكم الذي يمنع الرقابة الشعبية وإمكانية تغيير الحاكم عن طريق الانتخاب، ثم تحوّل تدريجيا من حكم جماعي يتمتع أفراده بالشرعية الثورية إلى الحكم الدكتاتوري الذي يطغى فيه على أقرانه الأكثر منهم دهاءً ومكرا ويصبح الزعيم الأوحد الذي يسبِّح بحمده الجميع؛ وهذا ما رأيناه يتحقق تباعا في كل الدول العربية على وجه الخصوص وحتى من قبل الذين اغتصبوا الحكم باسم نصرة الإسلام كعمر البشير وجماعة الإنقاذ في السودان، فكان مآل الجميع فشل سياسي واقتصادي واضح وفساد أخلاقي فاضح؛ ويصدق فينا قول شوقي: وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا” إننا لا نستثني من تلك النخب أولئك الذين تسمُّوا بالإسلاميين وانخرطوا باسم المشاركة في منظومات الحكم المبنية على الاستبداد والفساد، فكانت النتيجة أن أفسدتهم عوض أن يصلحوها وسقط الكثيرون منهم في شباكها فكانوا بسوء تصرفاتهم لكثير من الجهلة والمغرضين حجة على الإسلام “وديكورا” لتعددية حزبية زائفة تبرر للغرب الماكر تأييده لعملائه المستبدين. إن الإنسانية تفتقر إلى “أخلقة السياسة”، خاصة نحن المسلمين ضحايا “مكيافيلية” الحضارة المادية السائدة وتعاملها بمكيالين، وجب علينا أن نسعى بالعمل الجاد والثقة في النفس واليقين من صحة مبادئنا إلى اختيار رجال ورعين وعلى درجة من العلم والوعي الكافي والدهاء اللازم لخوض غمار السياسة بنزاهة وروح مسؤولية دون السقوط في وحل الخبث والمكائد والفساد التي أصبحت تعرف به؛ ولن يتأتى ذلك إلا إذا استعادت الشعوب سيادتها وتقرير مصيرها بأيديها في جو من الحرية والديمقراطية الذي يمكِّنها من اختيار حكامها ومراقبتهم. إن المتأمِّل النزيه في أحوال بلداننا العربية خاصة، والإسلامية عموما، يجد أنها في آخر ترتيب دول العالم في كل مناحي الحياة، مع ما تنعم به من ثرواتٍ طبيعية وطاقات بشرية، وذلك بسبب افتقارها إلى الحكم الراشد وعدم قدرة النّزهاء والأكفاء من أبنائها على الوصول إلى سدته، لقد حان الوقت بأن يستعيد الشرفاء على اختلاف توجهاتهم زمام المبادرة ويوحِّدوا جهودهم ويضطلعوا بمسؤولياتهم بالعمل الجاد والتضحيات اللازمة من أجل نشل بلدانهم من براثن الفساد ووضعها على سكة التقدم، وسوف يجدون كل الدعم والتأييد من الشعوب ويحضون بثقتها. إن “أخلقة” السياسة أمر ممكن في البلدان الإسلامية قبل غيرها لأنها تجد الاستحسان والرضا لدى شرائح كبيرة من مجتمعاتها بحكم ارتباط الأخلاق بالشعائر الدينية التي تتمسك بها ولو في حدها الأدنى، فواقع تلك المجتمعات يثبت بما لا يدع مجالا للشك تأثير التدين وما يفرضه من قيم في المعاملات بين أفرادها وأثرها الإيجابي في استمرار حياتها وتماسكها وتضامن أعضائها رغم الفساد الذي ينخر كيانها واختلال العدالة وتغييب الرقابة وعدم الضرب على يد الظالم. ولكن ذلك لا يكفي لإخراجها من التخلف فخلاصها يكمن في إعادة التوازن والانسجام التام بين الشعوب وحكامها من أجل التطبيق الأمثل للقوانين المنظمة لحياتها والتي في مجملها لا تتنافى مع قيمها، فإذا نجحت فسوف تصبح لا محالة النموذج الذي تحذو حذوه باقي الشعوب التي تعاني مثلنا من ضعف القيم الأخلاقية لدى الكثير من الساسة وسوف تساهم في إعادة ترتيب القيم بحيث تُعطى للفضيلة مكانتها ويُحَدُّ من تَغوُّلِ المادة وطغيان القوي على الضعيف حتى في الدول المتطورة بالرغم مما وصل إليه بعضها من الرقي القانوني وصرامة الرقابة.