ربما هي "الصدفة" التي يرفضها الفيلسوف سقراط كأمر حتمي في معالجة الأمور، ولكنه الواقع المر الذي أحيته إحدى العائلات في قصة أغرب من قصص "ألفريد هيتشكوك" المرعبة و "أغاتا كريستي" ذات الحُبك المعقدة. يشاء القدر أن يولد الصغير محمد ابن إبراهيم بزينة و هارون طاطا في الذكرى الثلاثين لشهر نوفمبر عام 1984 ، ليختفي الرضيع في ظروف غامضة. حيث أوهم شخص والده بأن الصغير ولد ميتا وهي الكذبة التي كشفها الوالد المخدوع بعد سنوات طوال ليجد أن ولده "محمد" حي يرزق وليس كما أوهمه ذلك الرجل الذي كان يرتدي زي رجال الدرك، متأبطا كيسا بلاستيكيا يحوي وثائق ربما هي أخطر من الوثائق السرية المخابراتية بالنسبة لعائلة التي تبدو علامات الدفء والبراءة و الحزن القاسي الهادئ مدفونة بين تجاعيد جبين والد احمرت عيناه أسفا وحسرة وحرقة على فقدان أول مولود له . الشروق اليومي استطلعت في لقاء مع والد محمد" اللغز" تفاصيل حكاية حياة و"موت" الوليد الذي لم تره عينا الأم "طاطا"- لم تستطع المجيء ولم نستطع مقابلتها رحمة بها حتى لا تتذكر آلام افتقادها ولدها- يأخذ عمي إبراهيم نفسا عميقا، وبلُغة بريئة يستطرد قائلا: حدث ذلك في ال 14 من شهر نوفمبر1984 وهو تاريخ ميلاد ولدي محمد ، يقول أنه أخذ زوجته إلى مستشفى بوفاريك للولادة، ولأن وضعها كان مُعقدا أرشدوه برسالة مرفقة أن يأخذها إلى مستشفى بني مسوس بالعاصمة، لم تكن هناك سيارة اسعاف فاضطر لأن يستأجر سيارة طاكسي، رمقه شاب من بعيد وهو يساوم السائقين في مصاريف النقل فتقدم منه وسأله عن مشكلته فأخبره بالأمر، هون عليه وطلب له سيارة أجرة دفع تكاليفها من حسابه، يسترسل الوالد إبراهيم قائلا بأن زوجته أنجبت له ولدا أسموه مُحمدا إثر عملية جراحية قيصرية، ولأنّ وضعه الصحي كان سيئا اضطر طبيب مشرف إلى وضعه داخل حاضنة ، بينما بقيت الأم تحت المراقبة الطبية لمدة 24 يوما، وخلال هذه الوقائع كان الشخص ذاته يتكفل بإجراءات تسجيل المولود يقول الوالد، حيث اكتشف بأن ذلك الشخص من رجالات الدرك بعد أن قدم إليه حاملا الدفتر العائلي وهو بالزي العسكري للدرك، لكن يقول الوالد "أستغرب عدم تسجيل محمد في الدفتر والاكتفاء بذكر لقبه فقط مع ملاحظة دونت في الأسفل تشير إلى أن المولود توفي، سأل إبراهيم الدركي عن ذلك فأخبره بأنّ ابنه وُلد ميتا ولأجل ذلك لا يدوّن اسمه بالكامل..احتار في الأمر عند سماعه الخبر ولكنه صدّقه لأن رجال الدرك لا يكذبون ، فطلب أن يأخذ ولده ، لكن الدركي أفهمه بأن إجراءات طويلة عريضة تنتظره، لم يكثر الوالد الحيران الكلام واستسلم لفكرة دفنه بالنيابة من قبل مصلحة المستشفى حاملا زوجته عائدين إلى بيتهما والحزن يقطع أحشاء الأم المسكينة و الوالد الذي سلم بأمر الوفاة. 48 شهرا بعد حادثة الوفاة، محمد حيّ... رجع الوالد إلى مستشفى بني مسوس بعد مرور عامين من وفاة ولده محمد من أجل استخراج وثائق يحتاجها في ملف طبي، طلب إبراهيم من إدارة المشفى وثائق تثبت التكفل بعلاج زوجته وشهادة وفاة ابنه، لكنه تفاجأ بأن محمد حي وليس ميتا كما هو مسجل في الدفتر العائلي، لم يستطع إبراهيم شد نفسه و تصديق ما سمعه وراح يستوضح الأمر، فاكتشف بأن ولده سُجل في ال 14 نوفمبر من العام 84 كمولود جديد وخرج من المشفى في ال 24 من الشهر نفسه،أي أياما قليلة قبل خروج الأم من المستشفى، مع تحديد ميعاد للمراقبة الطبية للرضيع سُجلت فوق البطاقة الطبية للقطاع الصحي الجامعي بالشراقة في الثاني من شهر ديسمبر للعام نفسه، بالإضافة إلى استخراجه شهادة ميلاده بالتفاصيل التوثيقية كلها ولكن دون ذكر للاسم فقط، يسكت الوالد و قد علت عيناه حمرة دمع حارق حبسه صبر وتسليم لمدبر أحوال الخلق، ثم يتنفس بعمق من جديد وكأنه غطس وسط مياه عميقة طالت مدة غوصه ليقول بأن مسلسلا جديد بدا في حياته وحياة زوجته التي وصفها بالعيادة الحاملة لكل الأمراض بل هي مصدر الأسقام في الوجود، حيث نعتها في جانب أنها أضحت تتوهم عودة صغيرها بعد تلك السنين الضاربة في الزمن، وفي أحايين أخرى تصرخ وتندب حظّها لوفاة محمد الذي أنجبته ولم تشم حتى رائحته الملائكية. شكوى باختفاء محمد و أمل مفقود في رؤيته يقول عمي إبراهيم أنه ومنذ ذلك التاريخ وهو يبحث عن سر ولده الذي اختفى من بين يديه بالرغم من رفعه شكوى لدى مكتب نيابة محكمة بئر مراد رايس و فتح تحقيقا بشأن ذلك و اتّهمه بأن الفاعل لن يبتعد عن دائرة ذلك الشاب الذي كان يرتدي زي الدرك كاشفا حتى عن اسمه ، لكنه يستسلم مرة أخرى ويقول بأن قضيته أصبحت في عالم النسيان بعد أن غطى غبار الزمن آثار تلك السنوات الماضية، حزينا على رفيقة دربه التي يقول أنها أصبحت لا تستطيع الخروج للتطبب أو زيارة الأهل والأقارب، لقد أقعدها المرض وأكل الحزن والحسرة منها نظارة الحياة وخطف منها الزمن صغيرا تحلم بين اليقظة والغفوة رؤيته ثم ترحل، يصفها زوج بدا وفيا وفاء طائر البجع لأنثاه، يطوي عمي إبراهيم أوراق وشهادة ميلاد صغيره مطأطئا رأسه ثم يضعه جامعا إياها في كيس بلاستيكي ويغادر تاركا سؤالا كبيرا: "هل سيرى ابنه ويقر به عينا أمه ولو للحظة..؟ يسلم عمي إبراهيم بقلب نقي ويحرك قدميه نحو باب الخروج وكأن جبالا ثقالا يحملها فوق كتفيه العريضتين لينصرف وكأنه شبح خيال . فيصل هارون