وصف دوما داخل حزب جبهة التحرير الوطني، بصوت العقل والحكمة، وظل دوما شعرة الميزان في الأزمات السياسية التي هبت رياحها في عدد من المرات وعصفت على الأفلان، وبين المؤامرات العلمية والانقلابات البيضاء اختار الوسطية نهجا، فأصبح يعرف بصاحب الخيار الثالث في أزمة اللجنة المركزية المنعقدة في جوان الماضي، قبل أن يحمل مؤخرا لقبا جديدا ويطلق عليه رجل الإجماع والتوافق بين الجناحين المتصارعين، والشخصية الأكثر حظا لخلافة الأمين العام المبعد عبد العزيز بلخادم. في وقت كانت تتجه فيه الأطراف المتنازعة داخل جبهة التحرير الوطني، إلى بلورة وصياغة حل توافقي ينهي الأزمة، كما يضع حدا لحالة شغور منصب الأمين العام للحزب باللجوء إلى شخصية السيناتور عبد الرزاق بوحارة، تشاء الأقدار أن تسقط ورقة الرجل، ويستبعد القدر هذا الخيار السياسي، في رأب صدع الآفلان وعلاج آلامه، لتعود بذلك أزمة بديل بلخادم وخليفته إلى نقطة الصفر. كما يبدو أن رحيل بوحارة سيكون أحد الأسباب التي ستمدد من عمر أزمة الأفلان وبقائه من دون رأس بعد مغادرة عبد العزيز بلخادم لمنصب الأمانة العامة، عبر مسلك الصندوق . وبعملية مسح بسيطة للأدوار والمواقف التي عبر عنها الراحل عبد الرزاق بوحارة، في المحطات الحاسمة في عمر الآفلان والأزمات التي هبت رياحها على بيت الحزب العتيد، نستشف أن بوحارة الذي جدد فيه الرئيس بوتفليقة الثقة في شخصه، كعضو مجلس أمة في الثلث الرئاسي، رفض في حالات التناحر والانقلابات والتصحيحات الوقوف مع جبهة ضد جبهة أخرى، ففي المؤامرة العلمية التي هندسها منتصف التسعينيات، وفي عزّ المأساة الوطنية، عبد القادر حجار، ومجموعته المخضرمة ضد مهري الذي استسلم للأمر الواقع، وغادر الأفلان متهما بجرّ الحزب إلى "المعارضة" والتمرّد والعصيان، فضل بوحارة خلال هذه المؤامرة أن يرجح كفة العقل، وكان يرى في الصندوق أحسن سبيل لتجسيد التغيير، فرفض حسب كل من عايش الواقعة تلطيخ يديه بدماء الراحل عبد الحميد مهري. كما اختار بوحارة، الرجل الذي غطى تاريخه النضالي والثوري على نضاله السياسي ومناصب المسؤوليات التي تقلدها، الحياد وعدم الانحياز لأي معسكر من المعسكرين المتناحرين، عندما نظّم "متآمرون جُدد" انقلابا أبيض أطاح بأمين عام آخر هو بوعلام بن حمودة في صائفة 2001، الذي استخلفه في ما بعد علي بن فليس، الذي فجرت طموحاته السياسية الحزب ومكنته من إنجاب أول حركة تصحيحية من صلبه، ورغم نجاح بن فليس في شقّ عصا الطاعة بطريقة صامتة داخل الحزب، إلا أن صمت هذا الأخير أخرج بوحارة من صمته، واختار صف الرئيس بوتفليقة ودعمه جهرا في رئاسيات 2004، إيمانا منه أنه يقف في صف الشرعية، كما نظر إلى ترشح علي بن فليس ومنافسته للرئيس بوتفليقة، كسلوك لا أخلاقي وخيانة ثقة وضعها الرئيس بوتفليقة في أحد موظفيه. الرجل الذي آمن دوما بالتعايش السلمي، رغم الحروب الباردة والساخنة التي عايشها في الآفلان، ورغم أن الجميع يتفق على تصنيفه في صف وتيار رجل الحكومة الأسبق مولود حمروش، ورغم نصرته لبوتفليقة في صراعه مع بن فليس إلا أنه رفض الالتحاق آنذاك بالحركة التصحيحية، ونفس الموقف اتخذه تجاه الحركة التقويمية، وخرج ضمن لجنة العقلاء التي جعلت منه الوحيد الذي تلتقي فيه "شروط" الأطراف الأفلانية المتناحرة، وصاحب الحظوظ الكبرى لتولي أمانة الحزب العتيد لغاية المؤتمر العاشر. ورغم أن السيناتور بمجلس الأمة رفض تأكيد أو نفي إمكانية تولي زمام الأمور ب "الأفلان" فقد صارح محيطه ومقربيه أنه لن يعرض نفسه بديلا عن بلخادم إلا إذا حصل الإجماع بخصوصه وكان مرشح الطائفتين المتناحرين، فهل هو القدر الذي تدخل ليمدد عمر الأزمة داخل الأفلان؟ وإذا طرح اسم الراحل بوحارة كبديل لبلخادم، فمن الاسم المرشح ليكون بديلا عن بوحارة؟ . وافته المنية عن عمر يناهز ال 79 سنة إثر أزمة قلبية بوحارة يرحل بأسرار الثورة والأفلان عارض بومدين في 1964 وعارض بوتفليقة في 1999 انتقل أمس، السيناتور، ونائب رئيس مجلس الأمة، عبد الرزاق بوحارة 79 سنة ، والذي كان المرشح الأقوى حظا لقيادة جبهة التحرير الوطني بعد الإطاحة بعبد العزيز بلخادم، إلى جوار ربه، بعد تدهور مفاجئ لحالته الصحية، وتعرضه لأزمة قلبية نقل على إثرها إلى المستشفى العسكري بعين النعجة ليلة أول أمس. الراحل عبد الرزاق بوحارة، من مواليد الشمال القسنطيني (مدينة القل ولاية سكيكدة) بتاريخ 1934، تلقى تعليمه في المدرسة الحديثة تخصص رياضيات، قبل أن يكمل تعليمه الثانوي بثانوية الدوق أومال بقسنطية، والتحق بصفوف جيش التحرير في عام 1955، حيث شارك في عمليات كبيرة ضد الجيش الفرنسي بالولاية التاريخية الثانية التي ينحدر منها قبل أن يلتحق بالولاية التاريخية الأولى، أوراس النمامشة، وتمت ترقيته في الرتب العسكرية حتى بلغ وقتها رتبة رائد. وبعد الاستقلال واصل العمل في صفوف الجيش الجزائري، حيث تلقى تدريبا عسكريا في المدرسة الحربية في حمص في سوريا، وتخرج الأول في دفعته، قبل أن يتحصل على شهادة ليسانس في العلوم العسكرية بالكلية الحربية المصرية بالقاهرة، ليعين كأول ضابط للجيش الوطني الشعبي في مدرسة قيادة الأركان بباريس. وكان أول من عارض وزير الدفاع هواري بومدين، سنة 1964، خلال المؤتمر الأول لحزب جبهة التحرير الوطني. وطالب خلال أشغال المؤتمر بتطهير الجيش من "ضباط فرنسا"، أو ما يعرف بالعسكريين الجزائريين الفارين من الجيش الفرنسي نحو الثورة، والتي وصفت بالعملية المدبرة لاختراق الثورة من طرف الجنرال شارل ديغول. وفي نفس العام أي 1964 عين بوحارة من طرف الرئيس الراحل أحمد بن بلة كقائد أركان للقيادة الجهوية الثالثة ببشار. وبعد عام من ذلك، في أعقاب الانقلاب العسكري على حكم الرئيس بن بلة من طرف الرئيس الراحل هواري بومدين، عين بوحارة كملحق عسكري بالسفارة الجزائرية بباريس في 1965، ليتقلد نفس المنصب في 1968 بسفارة الجزائر بموسكو. عبد الرزاق بوحارة قاد الجيش الجزائري المشارك في الحرب العربية الإسرائيلية العام 1967 المكلف وقتها بحماية وتأمين قناة السويس. وكانت التجربة والخبرة العسكريتان لبوحارة، عاملا مباشرا لتعيينه من طرف الرئيس بومدين كأول سفير للجزائر في العاصمة الفيتنامية هانوي في أعز أيام القصف الأمريكي على الفيتنام، قبل أن يعين واليا للعاصمة الجزائر، في العام 1975. وفي عام 1977 استقال نهائيا من الجيش الوطني الشعبي برتبة مقدم، ليعين وزيرا للصحة إلى غاية وفاة الرئيس هواري بومدين، في ديسمبر 1978 وتعيين الشاذلي بن جديد خلفا له، تم إعادة هيكلة حزب جبهة التحرير بداية من العام 1979 وتم تعيين عبد الرزاق بوحارة مسؤولا للتنظيم بالحزب إلى غاية المؤتمر السابع للحزب العتيد. في رئاسيات 1999 عارض بوتفليقة بعد انسحاب 6 مرشحين من السباق عشية إجراء الدور الأول، وساند خلالها رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش.. وخلال السنوات الأولى من حكم بوتفليقة، حصل تقارب كبير بين الرجلين ليتم تعيين بوحارة في العام 2004 ضمن الثلث الرئاسي بالغرفة العليا للبرلمان (مجلس الأمة) إلى أن وافته المنية بعد 6 سنوات من عضوية الغرفة العليا للبرلمان. وفجع الفقيد بوحارة في ابنتيه خلال فيضانات باب الوادي في 10 نوفمبر 2001، إلا أن ذلك لم يثنه عن مواصله النضال من أجل مبادئ طالما آمن بها من الجبل إلى حقول الأرز (منطقة بلبنان) على حد كتاباته. بوحارة يحسب على الطبقة المثقفة جدا باللغتين العربية والفرنسية، حيث رغم تكوينه العسكري، وتخصصه في الرياضيات، إلا أن بوحارة كاتب بارع، حيث صدر له مجموعة مؤلفات، أهمها: منابع التحرير، أجيال في مواجهة القدر، الذي صدر عن دار القصبة في 2001، ليكون كتاب '"من الجبل إلى حقول الأرز'" آخر ما يصدره الراحل بوحارة. ولم يسبق وأن تداول اسم بوحارة في قضية من قضايا الفساد رغم تقلده مسؤوليات كثيرة لسنوات عديدة، ويعتبر صاحب أفكار قريبة من اليسار ولا يقبل السيطرة عليه أو التدخل في صلاحياته من أية جهة. . قالوا عن الراحل: . عبد العزيز بلخادم: بوحارة المناضل الوفي بوحارة هو المجاهد والمناضل الوفي والضابط العسكري الذي قاد القوة الجزائرية بأمر من بومدين لرد الصهاينة عام 67، وهو السفير والوزير والوالي، لقد خدم الجزائر في كل جوانبها، لقد ترك بصماته بارزة، كما انه المناضل الوفي في الأفلان. . عبد القادر حجار: هو أعز الأصدقاء منذ عقد وأنا اعرفه، بقيت على اتصال معه، حتى في الفترة الأخيرة التقيته أربع مرات، وها هو القدر لا مناص منه... لقد خدم الجزائر وقدم شبابه من اجلها، نرجو للأسرة الثورية والأسرة الوطنية الصبر الجميل. . ڤوجيل: وداعا خادم الجزائر لقد كان المجاهد عبد الرزاق بوحارة الذي عرفته منذ 50 سنة، أعز الأصدقاء، وفاته هي بالحق خسارة كبيرة للجزائر وللحزب... لقد خدم الجزائر ووهب شبابه للوطن الذي أحبه فوق كل اعتبار فترك الدراسة الثانوية للالتحاق بالثورة المجيدة. . مصطفى شرشالي: كان أمل الأفلان أحس أني فقدت أحدا من عائلتي، عبد الرزاق بوحارة رجل مستنير ومستقيم، كان يحب الشعب والمواطن البسيط، لقد كان قريبا من اهتماماته إلى أقصى درجة... كان أملنا في إصلاح حال الأفلان الذي فسد في السنوات الأربع الأخيرة، لقد كنا نأمل أن يعيد الحزب إلى عمله الأصلي خادما للطبقة الكادحة والمواطن البسيط. . سعيد بوحجة: وفاته ستؤثر على الجبهة الأخ المرحوم من المجاهدين الكبار في الولاية الأولى، ثم في تونس، لقد كانت له أعمال بارزة في الثورة، وبعدها كسفير ووزير ووال، لقد كان يؤمن بما يقول، لقد كان قريبا من الجماهير يتحسس تطلعاتها وانشغالاتها... وفاة عبد الرزاق بوحارة في هذه الفترة الاستثنائية من دون شك سيؤثر على مسار الحزب كأي قيادي كبير. . الهادي خالدي ..باكيا ..لا يمكن أن أتكلم عن الراحل، إن المصاب كبير، أي كلام لا يكفي في حقه. . بوكرزازة: الآفلان خسر رجل إجماع من الطراز النادر قال القيادي ووزير الإعلام الأسبق، عبد الرشيد بوكرزراة، إن رحيل المجاهد والمناضل عبد الرزاق بوحارة يمثل فاجعة لمناضلي الحزب وللجزائر، لكونه من آخر الشخصيات الوطنية الجامعة التي تلقى إجماعا من جميع الأطراف المتخاصمة داخل حزب جبهة التحرير الوطني. وأضاف بوكرزازة، الذي عايش الراحل لعقود طويلة منذ كان مناضلا وقياديا في شبيبة جبهة التحرير الوطني، في تصريحات ل"الشروق"، أن الأطراف المتخاصمة داخل الجبهة علقت آمالا كبيرة على رجاحة عقل وحكمة الرجل، مشيرا إلى الآمال الواسعة التي علقها الجميع، بمن فيهم أنصار عبد العزيز بلخادم، على بوحارة لقيادة سفينة الحزب إلى ساحل النجاة. وأكد بوكرزازة أن بوحارة كان دائما ينأى بنفسه جانبا عن أي صراع أو تنافس داخل الحزب أو أي معركة لتحصيل منافع دنيوية مهما تعاظمت، مشيرا إلى أن بوحارة كان دائما يردد أنه لن يطلب المناصب ولكنه لن يتخلى عن خدمة حزبه وفق المبادئ التي ناضل من أجلها وآمن بها في حال طلب منه ذلك . بن صالح: "برحيل بوحارة خسرنا مجاهدا كبيرا ووطنيا غيورا" اعتبر رئيس مجلس الأمة، عبد القادر بن صالح، أن الجزائر خسرت بفقدان عضو اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني وعضو مجلس الأمة، عبد الرزاق بوحارة، "مجاهدا كبيرا ووطنيا غيورا على بلاده". وقال بن صالح، في برقية تعزية وجهها إلى عائلة الفقيد: "هز نفسي هذا المصاب الأليم، فقد اختطفت المنية منا زميلا عزيزا آلفت بيني وبينه مهامنا في مكتب مجلس الأمة (...)، ولا غرو فهو من جيل الثورة المباركة ومجاهديها الأفذاذ، وممن تولوا المسؤوليات الوطنية والمهام الرفيعة. فكان بحق من رجالات دولة.. وإننا إذ نفتقده اليوم فإننا نخسر برحيله مجاهدا كبيرا ووطنيا غيورا على الجزائر". وأضاف رئيس مجلس الأمة في برقيته: "فنودعه والحسرة طاغية والأسى عميق.. نودعه إلى حيث يلتحق بمشيئة الله بمن سبقه من الشهداء الأبرار والمجاهدين الأطهار"، منوها بصفات ومزايا المرحوم التي انتزع بها، كما قال، "تقدير الجميع وجعلت منه واحدا ممن يطلب رأيهم ويعتد بمشورتهم في القضايا والإشكاليات المستعصية".