بتفاقم أزمة المؤسسة الوطنية للصناعات الكهرومنزلية (إينيام) التي تتدحرج مؤخرا على حافّة الإفلاس المحتوم، يطفو النقاش حول مصير القطاع العمومي الصناعي في الجزائر، ويتجدد الجدل حول الخوصصة كخيار يراه الكثير مخرجًا وحيدا لتخفيف العبء عن خزينة الدولة من نفقات لا طائل منها. وفي تعليقه على الوضع، قال وزير الصناعة فرحات آيت علي، إن "مؤسسة إينيام التهمت الملايير بدون فائدة"، وأضاف أنها "تعاني العجز في انتظار إنعاشها بقروض بنكية إن وافقت البنوك"، وهو ما يعني أن مصير الشركة في حكم المجهول، ما يجعلها معرّضة لفتح رأسمالها وحتّى الخوصصة المباشرة. وفي ثنايا كلام الوزير، جاءت الرسائل متعارضة، فقد قال من جهة، إنه "لا يُعقل أن تكون مؤسسة صناعية منتجة ولا تحقق أرباحا"، أي أنّ المشكل يُطرح أساسًا في التسيير الرشيد وتطبيق معايير الحوكمة وانتقاء المسؤولين. لكن بالمقابل، يلمّح آيت علي إلى المخرج الاضطراري أو الجاهز على المقاس، حين يقول إنّ "الخصخصة نظامٌ لابد منه لتطهير الاقتصاد الوطني، وتحقيق فاعلية اقتصادية، لكن الخلل يكمن في أن السياسة المتَّبعة تفتقر إلى الإستراتيجية والتسيير المحكم". وهنا يجب الإقرار بأنّ الدولة فعلا مسيّرٌ فاشل، مهما كانت المحفزات، لأسباب كثيرة لا يسع المقام للتفصيل فيها، حيث أضحى تحييدها عن امتلاك وسائل الإنتاج مبدأ عالميّا في كل الاقتصاديات الناجحة، لكن ذلك لا يعني أبدا الانتقال من النقيض إلى النقيض، أي من احتكار الدولة للاقتصاد إلى استحواذ الأوليغارشية الجديدة على مقدرات البلاد باسم "الإصلاحات الهيكلية" دون حسيب ولا رقيب. ذلك ما يكشفه الاعتراف الصريح من مسؤول القطاع نفسه، حين يؤكد أنّ "الخوصصة ليست مشكلة في ذاتها، لكن تطبيقها من قبل الحكومات السابقة كان كارثيًّا"، فمن يضمن اليوم استكمال خوصصة باقي المؤسسات في ظروف أحسن من التجربة السيّئة؟ إنّ التوجه الاضطراري نحو تصفية الشركات العاطلة حتمية يفرضها منطق النجاعة الاقتصاديّة، بعيدا عن المواقف الإيديولوجيّة العنتريّة التي لا تقدِّم الحلول البديلة، وربما كل همِّها هو تسجيل نقاط سياسية في ملعب المزايدة على الحكومة أمام الشعب، باسم الدفاع عن الأملاك العمومية. لكن قبل الحديث عن خيار التخلّص من تلك الشركات المفلسة، يجب أولاً ضمان الشفافيّة الكاملة في تنفيذ العمليّة وفق البيع بقيمتها السوقيّة، وبما يضمن الحفاظ على نشاطها الوطني الأصلي والاحتفاظ بالعمال في مناصبهم. أمّا إذا كانت الخوصصة ستؤدي إلى التفريط في مؤسسات الدولة بالدينار الرمزي، ثمّ غلق الشركات المعنيّة وتسريح العمال، فهي نيّة مبيّتة لتكريس الفساد القديم عبر الاستحواذ على العقّارات الصناعيّة ونهب المزيد من القروض البنكيّة لصالح رجال أعمال نافذين في علاقات مع كبار المسؤولين. لقد خاضت الجزائر تجربة مريرة للخوصصة منذ التسعينيات، تحت ضغط المؤسسات المالية الدولية، خلال عشرية المأساة الوطنية، دون أن تجني منها شيئا، سوى التنازل عن أملاك الدولة، لفائدة "مستثمرين" فاسدين يقبعون اليوم خلف السجون. إن هذا المعطى يفرض على الحكومة الآن الاستفادة من الدرس القاسي قبل التعجّل في بيع ما تبقّى من الشركات الوطنيّة، لأنّ أطرافا كثيرة في مختلف المواقع تدفع بكل الطرق لتكون غنيمة صيد ثمين بين يديها، ولا شكّ أنها تعمل على تسويد الصورة قدر المستطاع، بل لا تتوانى عن فعل أي شيء يعمّق من حدّة الأزمة داخل تلك الشركات، لفرض الأمر الواقع في التخلّي عنها بأبخس الأثمان. نقول هذا الكلام من وحي الواقع الجزائري، حيث نستحضر تدخّل الرئيس بوتفليقة سابقا لوقف قرارات حكومية لخوصصة مؤسسات عمومية في أكثر من مرّة. بل يعلم الجميع أن سياسات ممنهجة تمّ تطبيقها خلال فترات سابقة لكسر شركات الإنتاج العمومية عبر إغراق السوق بالاستيراد العشوائي، ما فرض منافسة غير شريفة على المنتجات الوطنيّة. وفي النهاية كانت النتيجة الطبيعية هي إشهار إفلاس المؤسسات العمومية التي كانت رمزا للسيادة الاقتصادية في الجزائر منذ السبعينيات، والجنوح نحو الانفتاح على السوق الحرّة التي رهنت البلاد في قبضة التبعيّة للواردات الخارجية دون بناء بورجوازية وطنية حقيقية ناجعة، رغم استنزاف القطاع الخاص لمئات الملايير من الدولارات. لذلك، فإنّه يتوجب اليوم على سلطة القرار أن تستفيد من أخطاء الماضي، لتقطع الطريق أمام المتربِّصين، مثل الذئاب الجائعة، بأملاك الجزائريين.