يخطئ من يظن أن عهد "القربة " – وعاء لحفظ الماء وتبريده مصنوع من جلد الماعز– قد ولّى واستغني عن خدماتها بظهور مبردات عصرية ووسائل أكثر فعالية من حيث مستويات الحفظ والحفاظ على درجات البرودة في الفصول الحارة. وهي الوسيلة التي ما زال يستعملها سكان الحضر والبدو بشكل واسع بوصفها الأداة الأنسب لحفظ وتبريد الماء دون الحاجة إلى أية طاقة. ولا تزال "القربة" تحتفظ لها بمكانتها الوظيفية داخل المجتمع الأغواطي على غرار مجتمعات وأطياف أخرى، خاصة في فصل الصيف الذي تشتد حرارته، على الرغم من التراجع الملحوظ الذي اكتسى تواجدها على أرصفة الطرقات حتى أصبح وجودها الآن يقتصر تقريبا على أحياء دون غيرها بمدن الولاية، مع تواجدها بقوة في عالم الريف والبدو الرحل وفي المناطق النائية. هي صاحبة ورفيقة للمقيم والمرتحل ويصنع حلاوة مائها القطران والمواد الأولية المحلية. اقتربنا من بعض صانعي القربة والمحافظين على بعدها التقليدي بمجتمعنا، فعلمنا أن هذه الوسيلة التقليدية تصنع من جلد الماعز الذي تكسوه شعيرات لها فعالية كبيرة في تبريد الماء والحفاظ على درجات برودته ويتم تحضيرها بدبغ جلد الماعز من خلال تلبيسه بعدة مواد وعقاقير من الأعشاب البرية كالعرعار والملح والقطران. ويترك الجلد مدة شهر على هذه الحال حتى تتفاعل كل المواد ويتشبع الجلد بها، ثم يوضع فيه الماء مدة لا تقل عن 15 يوما لتنقيته من بقايا مواد وأعشاب الدباغة حتى تعود صالحة للاستعمال بعد ذاك. ولشرب الماء من القربة نكهته الخاصة نتيجة الطعم المتميز للقطران والمواد الطبيعية الأخرى التي تحافظ على التوازنات الصحية داخل جسم الإنسان وخصوصيتها لاسيما وأن تكوينها طبيعي مائة بالمائة. يتميز القطران المصنوع بمنطقة جبل لزرق الواقعة بمحاذاة الطريق الوطني رقم 23 شمال مدينة الاغواط بحوالي 30 كم، بجودته العالية، ويصنع من شجر العرعار الذي يوضع في مطمورة – حفرة تقليدية – تسمّى " الخابية " تغطّى بحجر المقاط الذي تتميز به المنطقة هو الآخر. ويحرق شجر العرعار في الخابية حتى تتصاعد منه الأدخنة التي تشكل رطوبة من نوع خاص تتحول إلى سائل أسود اللون ينساب تلقائيا من مجرى صغير مصنوع من الجبس المحلي تنتهي إليه الخابية. ويتم جمعه في زجاجات وإعداده للاستعمال والتسويق، وهي نفس الطريقة التي يستعملها سكان بلدية وادي مزي من عرش لقمامتة في تحضير مادة القطران الذي يتميز هو الآخر بجودة كبيرة. ويكثر عليه الطلب في فصل الصيف خاصة لكونه مطلبا وحاجة لها أكثر من ضرورة بالنسبة لسكان المنطقة السهبية ومنهم أهالي الأغواط - بدوها وحضرها - لاسيّما في فصل الصيف التي لا تحلو أيامه الحارة ها هنا إلا بشربة ماء عذبة تنساب زلالا من فاه قربة " مدبوغة" بمادة القطران ذات الطعم اللذيذ والرائحة الزكية. وتبقى القربة المنصوبة على مقربة من قصر العدالة بالاغواط محطة أخرى تبين القيمة التي تحوزها في قلوب الأهالي، وهي معدة لشرب الغادين والرائحين من السكان وغيرهم من عابري السبيل، في هذا الفصل الذي يتضاعف فيه الطلب على ماء الشرب. والجميل في كل هذا أن صاحبها يحرص على ملئها في كل الأوقات بشكل ولّد إعجابا وارتياحا في أنفس المارة الذين وجدوا فيها ملجأهم الدائم لتلطيف حرارة الطقس ولو بالاستئناس بمنظرها وقطرات الماء التي تنبعث من جنباتها، وبمحيطها سبخة صغيرة المساحة صنعتها قطرات الماء ,تلطّف هي الأخرى من حرارة الأرضية والطقس عموما. وتلك محطة أخرى من محطات كرم أهالي المنطقة الساعين بكل الوسائل لفعل ما يقربهم من خالقهم ويضاعف من حسناتهم. والأكيد أن حفاظ الأغواطيين على كل عناصر البعد التقليدي في حياتهم يعني بديهيا حفاظهم على الإرث التاريخي والحضاري الذي يعتبر جزء من هويتهم الضاربة في أعماق التاريخ. محطات من تاريخ القربة القربة كما يعرّفها " أبو الوطب" وعاء من جلد الضأن والماعز، يُخاط ويعد ويجعل وعاءً للماء واللبن، وتسمى أيضاً " راوية " أو " ركوة ". استعملت في المعارك القديمة وعاء لحمل الماء في السفر. كانت مظهراً ورمزاً لساقي العطشى أبي الفضل العباس العراقي، فهو الذي كان يأتي بالماء ويسقي العيال والأطفال، ولهذا سمي بأبي القربة كناية عن السقي بالقربة.وذات عاشوراء حمل القربة وسار إلى الفرات وملأها بالماء، وأثناء عودته إلى الخيام هاجموه من كلّ جانب، وقطعوا يديه ومزّقوا القربة وقتلوه قبل أن يصل إلى الخيام.وقبل يوم العاشر كان للقربة دور وذكر، ففي أثناء مسير قافلة الحسين صوب العراق وحين بلغت منزل شراف، حمل الشبان ماءً كثيراً وفي منتصف نهار اليوم الثاني لقوا الجيش الذي كان يقوده الحرّ بن يزيد الرياحي وكان تعداده ألف نفر، وكلّهم يشكون العطش. فقدموا لهم الماء حتّى ارتووا هم وخيلهم (تاريخ الطبري 302:4.) الشريف داودي