من أشهر أمنيات الفنان الفرنسي الجنسية أو "أنريكو ماسياس" أغنية "La France de mon enfance" أو "فرنسا الصبا" التي يتغنى فيها بقسنطينة والتي يعتبرها بفرنسا التي قضى فيها صباه، أي أن حنينه للمكان هو أيضا حنين لفرنسا الجنوبية التي كانت لا تغرب عنها شمس الجزائر الساحرة.. ولد أنريكو ماسياس في حي "الشارع" بقسنطينة، الذي عرف في شتاء 1999 عمليات تصليح لأجل استقباله في الحفلة الموعودة التي كانت مبرمجة في شهر أفريل قبل أن تتبخر نهائيا، وسيحتفل ماسياس قريبا بعيد ميلاده 68 سنة، قضى معظمها بعيدا عن مسقط رأسه، وبرغم أن ماسياس عاش وعمل في عدّة مناطق مثل عزابة "ولاية سكيكدة" وشلغوم العيد "ولاية ميلة"، إلا أن حبّه لقسنطينة بقي طاغيا وتحوّل إلى قضية فنية وإنسانية وسياسية ترجمها في أزيد من خمس أغنيات أشهرها على الإطلاق "غادرت موطني وقسنطينة"، وروت لنا الفنانة الشهيرة إبنة قسنطينة "شافية بوذراع" حكاية ماسياس الذي كان يعشق العود والڤيتارة في شبابه، فكان ينزل إلى سفوح "الريميس"، أسفل الجسور المعلقة ويؤدي أغاني المالوف إلى أن أحرز عام 1961 على جائزة فنية في ساحة لابريش كانت بطاقة إنطلاقته الفنية بتدعيم من صهره المغني الشهير ريمون الذي تزوّج من إبنته وأصبح مثله الأعلى، خاصة أن ريمون الذي كان يقطن بحي "العربي بن مهيدي" حاليا عندما رفض العريس الشاب، قام ماسياس بمحاولة انتحار فاشلة من على جسر "باب القنطرة"، ثم حقّق حلمه وتزوّج من إبنة ريمون المغني الذي تورط في جرائم قتل في حق الجزائريين نشطها يهود بتخطيط إستعماري قبل أن يلقى جزاءه من طرف المجاهدين في عملية مازال يتذكرها ماسياس.. بكل تأكيد. حمل ماسياس رفقة اليهود حقائبه في أولى إشعاعات الإستقلال وطار إلى فرنسا، لأنه اختار الجنسية الفرنسية مثل الجالية اليهودية وذاع صيته كمغن في أواخر الستينات، ولكن دخوله العالمية لم يتحقق إلا في منتصف السبعينات بأغنية "أطفال كل بلدان العالم" و"أنا يهودي إسباني" وغيرها من الأغاني، ولكن موجة الفنانين الجدد جعلت ماسياس يعيش على الماضي فقط ولم يعد له الآن من حلم فني سوى إقامة حفلة فنية في مسقط رأسه قسنطينة، خاصة أنه يتقن اللغة العربية ويتقن أداء الكثير من الأغاني الأندلسية، ومن أنجح أغانيه بالعربية "يا باهي الجمال" و"يا بلارج يا طويل القايمة". فنانون جزائريون في ضيافة ماسياس الكثير من مشاهير الفن الجزائري زاروا أنريكو ماسياس في فرنسا ويخفون ذلك على عامة الناس وآخرون غنوا معه وأعربوا عن تضامنهم التام معه، ومن بين أشهر أصدقاء ماسياس من الفنانين الجزائريين الذين غنوا معه، نذكر حمدي بناني وحسين لصنامي والشاب مامي الذي تجمعه ثنائية غنائية مع ماسياس. كما أن ماسياس يزور مختلف الدول العربية باستمرار مثل لبنان ومصر وتونس والمغرب. وعقب معاهدة كامب ديفيد التي شهدت إتفاقية السلام ما بين السادات "مصر" وبيغن "إسرائيل" وكارتر "أمريكا"، سافر ماسياس إلى تل أبيب، ثم إلى القاهرة وأدى حفلة شاركت فيها صباح وحتى وردة الجزائرية، وهي الحفلة التي وضعت وردة ضمن القائمة السوداء في عهد الرئيس بومدين، حيث منعت كل أغانيها من الإذاعة والتلفزيون إلى أن أعادها الشاذلي في الذكرى العشرين للإستقلال في جويلية 1982. ويقتبس الكثير من فنانينا أيضا من موسيقى أغاني أنريكو ماسياس التي تحول البعض منها إلى أغاني رايوية وشعبية وأندلسية وحتى دينية. الجيش الإسرائيلي كرّمه في عز العدوان على لبنان لا أحد يمانع في أن يقوم أي يهودي بزيارة مسقط رأسه في قسنطينة أو غيرها، والدليل على ذلك أن الكاتب الصحفي (بنجامين سطورا) يزور المدينة باستمرار دون أن يلقى أي معارضة، لأن اليهود دخلوا قسنطينة وتلمسان والعاصمة والبليدة منذ ضياع الأندلس، حيث عوملوا بوحشية مثل المسلمين من طرف المسيحيين الإسبان، وتقول تقارير فرنسية حديثة جدا أن عدد اليهود حاليا هو ما بين (100 إلى 200 شخص) بعد أن كان عددهم عام 1962 يفوق 150 ألف نسمة فضلوا جميعا باستثناء 5000 اختيار فرنسا على الجزائر. وتميزت حياة ماسياس بعد ولادته بثماني سنوات بقيام الدولة الإسرائيلية وفي شبابه بالحروب الشهيرة من العدوان الثلاثي على مصر 1956 إلى نكسة 1967 وتلتها حروب العبور وحرب لبنان 1982 وظل ماسياس إلى جانب الدولة (اللقيطة).. ثم جاء العدوان الإسرائيلي على لبنان عندما اختارت جمعية MAGAV الإسرائيلية وهي قوة مقاتلة تنحدر من الجيش الإسرائيلي المعروف بISAHAL اختارت هذا الزمن العصيب على إسرائيل التي تجرعت الويل من كأس حزب الله لتقوم بتكريم خاص لماسياس الذي سلمته شهادة باسم (ماغاف القدس) وجميع الوحدات العسكرية وهي شهادة لا يتم تسليمها إلا لمن أفنوا أعمارهم في خدمة القضية الصهيونية. وقال المكرم لماسياس بالحرف الواحد "هذا اعتراف منا لما قدمته يا ماسياس لدولتنا وقضيتنا في فرنسا". وقال حينها ماسياس (جويلية 2006): "إن ما قمت به ليس من أجل الشهرة أو من أجل العودة بقوة فنيا ولكن لإيماني بإسرائيل".. وهكذا، مرّت السنوات واشتدت الأزمة العربية الإسرائيلية وتأرجحت ما بين السلام والحرب، وكان ماسياس دائما مع إسرائيل التي لم يولد فيها ولم يعش فيها وبالتأكيد لن يموت فيها، رغم أنه يمتلك حشودا من المعجبين بأغانيه من العرب، وقد اعترف بأن أكثر من نصف الحاضرين لحفلاته بفرنسا من المغتربين المغاربيين. هل زار الجزائر سرا؟! كل شيء كان يؤكد أن ماسياس سيزور الجزائر، وخاصة قسنطينة وعددا من مدن الشرق في ربيع 1999، إذ تلقى دعوة من رئيس الجمهورية في باريس وتمّ تشكيل لجنة لتحضير زيارته إلى مسقط رأسه، حيث دخلت قسنطينة في سباق مع الزمن فقامت بترميم المقبرة اليهودية (حي الأمير عبد القادر) وترميم المسكن الذي ولد فيه وتربى وزفتت وبلطت الطرقات والأرصفة، ليتبخر الحلم ويقرّر ماسياس بنفسه إلغاء أو ربما (تأجيل) الزيارة بعد زوبعة الرفض السياسية (عبد العزيز بلخادم وبعض الجمعيات) والإعلامية (الشروق العربي).. وصمت الرجل دون أسف كبير وهو ما جعل بعض الإعلاميين الفرنسيين يقولون أن أنريكو ماسياس قام بزيارة (حراڤة) سرية إلى الجزائر وزار قسنطينة أيضا.. وهو خبر بقي من دون تأكيد، خاصة أن ماسياس قال مرة أنه شاهد قسنطينة، ثم عاد ليقول أنه شاهدها في الحلم وفي عيون الجزائريين في فرنسا والمغرب وتونس. المشكلة أن ماسياس تلقى دعوة من الرئيس الجزائري، فقبلها، ثم جمّدها بعد احتجاجات بعض الجزائريين (ليس كلهم).. ثم تلقى الآن دعوة من صديقه الرئيس الفرنسي فقبلها وقد لا يجمدها.. فهل يعود المحتجون إلى سالف احتجاجهم.. أم أن ساركوزي حكاية أخرى. ناصر