محمد الهادي الحسني استعجلت الجمعية الخلدونية للأبحاث والدراسات التاريخية ببسكرة فصل الربيع، فاستقدمت أربعة أيام منه إلى فصل القر والصر. إذا كان ربيع البحتري كاد أن يتكلم، فإن الأيام الخلدونية الربيعية قد تكلمت، لا بالأزهار الفواحة، والنسيم العيل، ولكن بالعلم النافع الذي يغذي العقول الجائعة، والأدب الطريف الذي يطرب النفوس الحزينة، والشعر اللطيف الذي يشرح الصدور الحرجة، والقول الحسن الذي ينعش الأرواح الذابلة. كنت أسمع بالجمعية الخلدونية فأحسبها كأحد من الجمعيات التي كثرت أسماؤها وقل غناؤها، تصحو أياما، وتسْبِت أعواما، وتصوم دهرا، وتنطق نُكرا، فلما حضرت ملتقاها (الخلدونية) السادس الذي خصصته للإمام محمد الخضر حسين، أصيل مدينة طولڤة، رأيت منها العمل المنهجي السليم، والسعي الدائب الجاد، الغيرة الصادقة على تراثنا، والحرص الشديد على إحياء أمجانا، والعناية الفائقة بتدوين تاريخنا، حتى ظننت أنها لا تنام ولا تنيم، فعذرا للقائمين على تلك الجمعية العاملة عن ذلك الظن السيىء، والعذر عند كرام الناس مقبول... يشرف على هذه الجمعية النشيطة ويسيرها نخبة من الشباب الطموح، المتسلح بالعلم، المتخلق بالحلم، المتدرع بالعزم، ولهذا لم يستنكف كبار السن فيها أن يكونوا - رغم سعة علمهم، وغناء تجربتهم - تابعين لأولئك الشبان، يمدونهم بصالح الدعوات، ويساندوهم بصادق التوجيهات، ويباهون بما يحققونه من إنجازات. لقد أضاف أولئك الشبان الكرام البررة إلى جمال أم قرى الزيبان جلال الفكر، وطيب الذكر، وحلال السحر، فنالوا محبة الحميم، وانتزعوا احترام الخصيم، فلا يشنأهم إلا من في قلبه مرض، وفي نفسه غرض. تظهر جدية هذ الجمعية، ويبدو عملها المنهجي فيما أقامت - لحد الآن- من ندوات وملتقيات وطنية ودولية، ومنها :"بسكرة عبر التاريخ، والمقاومة الشعبية بمنطقة الزيبان، وتاريخ الحركة الوطنية بمنطقة الزيبان، والعلامة عبد الرحمن الأخضري، وعقبة بن نافع الفهري..." كما تتجلى جديتها فيما نشرته من كتب قيمة عن تاريخ المنطقة وأعلامها، ومنها: "تاريخ الصحافة والصحفيين في بسكرة، وأعلام من بسكرة، وزهير الزاهري، وملحمة الزيبان، وغيرها"، ولم تنس هذه الجمعية فضل السابقين فكرّمت ثلة من علماء الجزائر، الذين خدموها بإخلاص، وناضلوا بصدق، لا يريدون من وراء ذلك جزاء ولا شكورا، ومنهم بقية السلف الصالح، رمضان محمد الصالح، تلميذ الإمام ابن باديس، وخليفة الإمام الإبراهيمي في إدارة مدرسة دار الحديث بتلمسان، ومؤسس التعليم الديني في الجزائر المستقلة، وأول محيي لتراث الإمام ابن باديس... والأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله، الذي أحيا تاريخ الجزائر الثقافي، وأرّخ لحركتها الوطنية... والمرحوم الدكتور يحيى بوعزيز، والشيخ الفاضل عبد القادر عثماني... إن نجاح هذه الجمعية يعود - في رأيي- إلى الانسجام الذي يسود بين مسيرتها، فهم لا يتنافسون إلا في الجديات، ولا يسارعون إلا في الخيرات، لا يزدهيهم مدح، ولا يثبطهم قدح، كل قد وثق في نفسه وفي إخوانه، وكل قد علم مكانه ودوره، فلا سعي لنيل شهرة، أو إحراز لقب، أو تحقيق مكسب. فهمهم الدائم، وشغلهم الشاغل هو تحريك الركود، وإيقاظ الرقود، ولذلك فلا تعرف منهم رئيسا من مرؤوس، ولا تميز تابعا من متبوع، وميزتهم جميعا أن كل واحد منهم ذو فكر جوال، ولسان قوال، وقلم سيال، يحسن إذا خطب ويتقن إذا كتب، راحتهم في التعب، ولذتهم في النصب. لقد خصصت الجمعية، بمناسبة ذكرى وفاته الخمسين(*)، وقد ألقيت في الملتقى عدة محاضرات من قبل أساتذة من الجزائر، وتونس، وسوريا، ومصر، تناولت جوانب من شخصية الإمام وإن لم توفّها حقها، لتعدد جوانبها، وثرائها، ولضيق الوقت، ولعدم توافر كتابات الإمام في الجزائر. وأغتنم هذه الفرصة لأشيد بشخصين كريمين لهما فضل كبير، يذكر ويشكر، أولهما الأخ الدكتور محمد مواعدة، من تونس الشقيقة، الذي تتبع حياة الإمام محمد الخضر حسين، وهو مقيم بدمشق، ويتمثل فضله في حصر نشاطه ووقف حياته على آثار الإمام جمعا ونشرا، وقد طبع منها - حتى الآن- بضعا وثلاثين أثرا ما بين كتاب ورسالة، ونطمع أن يزيد. ولا يتم فضل هذا الأستاذ، ويكمل عمله إلا إذا سعى لإدخال هذه الكتب القيمة إلى الجزائر، باتخاذ وكيل لمؤسسته "الحسينية" في الجزائر، أو على الأقل بالمشاركة في معرض الكتاب الدولي. وهل تستطيع بسكرة صبرا على الشعر؟ وأنّى لها ذلك وقد نسبت إليه، فقيل: "بسكرة الشعر (1)"؟ ولهذا لم يجد المنظمون للملتقى مناصا من تخصيص الجزء الأكبر من أمسية الخميس (2007/12/27 ) لثلة من الشعراء الشبان، الذين أحسنوا الغوص في بحور الشعر، وروّضوا قوافيه، فأطربوا الآذان، وهيّجوا الأشجان، ونبهوا الأذهان... فلا فضّت أفواههم، ولا عقمت قرائحهم. وفي صباح يوم الجمعة (12-28) توجه الركب إلى بلدة بنْطّيوس لزيارة ضريح العلامة عبد الرحمن الأخضري، والترحم على روحه، وهو من أعلام القرن العاشر الهجري (16م)، له تآليف قيّمة في البلاغة، والمنطق، والفقه، أشهرها "الجوهر المكنون..."، و"السلم المرونق"، و"الدرة البيضاء"، وقد وجدنا الضريح على غير ما تصورنا، ولو قُدّر الرجل حق قدره، وعرفت قيمته العلمية لأقيم بجوار الضريح معهد علمي ينسِل إليه طلاب العلم من كل حدب، ويضم مؤلفاته وما كتب عنه. إذا صحت العزائم، وصدقت النوايا فما زال في الأمر مستدرك، وما على البلدية وكبراء المنطقة إلا السعي لدى أولي الأمر، لإقامة صرح علمي ومركز ثقافي فتحيا بهما بنطيوس، وتعود سيرتها الأولى في أيام الشيخ عبد الرحمن الأخضري. ثم يمّم الجمع تلقاء مدينة طولڤة، وبالتحديد إلى الزاوية العثمانية، التي أسست في عام 1780 (2)، فكانت لبنة التمام، ومسك الختام. كان في استقبال الزائرين فضيلة الشيخ عبد القادر العثماني، شيخ الزاوية، وعضو المجلس الإسلامي الأعلى، وقد استولى على مجامع القلوب بتواضعه، وطلاقة وجهه، ودماثة خلقه. يتميز الشيخ عبد القادر بأنه لا يحيط نفسه بهالة من الغموض كما يفعل كثير من أدعياء التصوف، فمظهره ينبىء عن مخبره، وقد انعكس ذلك على مريديه، فلا تراهم يتصرفون أمامه كأنه هبط من كوكب آخر، لأنه علّمهم أنه - مثلهم- ابن امرأة تأكل القديد. وقد زار الوفد مكتبة الزاوية الزاخرة بآلاف الكتب المخطوطة والمطبوعة، وتفضل الشيخ فكان مرشدا ودليلا، شرح للزوار ما تحتويه المكتبة، منبّها إلى بعض الكتب المتميزة في موضوعها أو منهجها، فالزاوية زاوية علم، لا زاوية "رقص السَّمَاح" (3)". وقد أكرم الشيخ ضيوفه، فأقام لهم وجبة غداء، وأبى إلا أن يظل واقفا، يطوف على ضيوفه، ويؤنسهم بلطف حديثه، معتبرا ذلك شرفا له. وتمتاز الزاوية العثمانية باتساع رحابها، ونظافة أرجائها، وجمال تنسيقها، فهذه أزهار وتلك أشحار، ويتوسط ساحتها نافورة ماء، قد أدينا صلاة الجمعة في مسجدها البسيط، النظيف، الجميل، ثم ودَّعَنا الشيخ بمثل ما استقبلنا به من اللطافة، والبشاشة، ملحا على إعادة الزيارة جميعا أو أشتاتا. وأما الأمر الذي أدهشنا وعقد ألسنتنا فهو ما رُقِم في لوح الإعلانات في مدخل الزاوية وهو أن "الزاوية لا تقبل هدايا ولا عطايا، لا من الأشخاص ولا من الهيآت". وهذه بدعة حسنة انفردت بها هذه الزاوية، لأن أكثر الزاويا ليس لها من عمل إلا جمع المال، دون إلقاء بال، لمصدر ذلك المال، أمن حرام هو أم من حلال. حتى صح فيها قول القائل: "إنها ڤراج لجمع الخراج". وقد اقترحت أن يتبرع الحاضرون بما استطاعوا من كتب لمكتبة الزاوية، يستفيد منها الباحثون الذين يقصدونها لإنجاز أبحاثهم، ولم يعترض الشيخ على هذا الاقتراح. بارك الله في عمر الشيخ الجليل، ومتّعه بسمعه وبصره ما أبقاه، وهدى به إلى الصراط المستقيم، والخلق القويم، وعَمَر زاويته بالذكر الحكيم. وشكر الله للجمعية الخلدونية سعيها، وجعلها نورا تنير بسكرة، وتضيء ما حولها، وجعل اسمها للخلود، وأعضاءها للخُلْد، ولمثل هذا فليعمل العاملون، وفي مثله فليتنافس المتنافسون. *) توفي الشيخ محمد الخضر حسين يوم 2 فبراير 1958 1) سليم كرام: ملحمة الزيبان. ص 26 2) فوزي مصمودي: تاريخ الصحافة والصحفيين في بسكرة ص 235 3) رقصة يستعملها بعض المشايخ، الذين جعلوا الذكر مُكاء وتصدية، انظر: المنجد في اللغة، مادة: سمح.