كانت الذكرى المئوية لمجازر الأرمن التي تم إحياؤها يوم 24 افريل 2015 أشبه بمظاهر الحج المسيحي الأكبر، إذ تقاطر قادة الكنائس المسيحية من باباوات، وكرادلة، وأساقفة، وقساوسة، ورهبان من مشارق الأرض ومغاربها، من مختلف المذاهب الكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذوكسية.. بالإضافة إلى رؤساء دول روسيا، فرنسا، صربيا، وقبرص. وحتى رئيس الكيان الصهيوني اعتقد أنه من المناسب أن يدلي بدلوه في الموضوع، فقد قال عند استقباله لزعماء الطائفة الأرمينية في الأراضي المحتلة: "إن الشعب الأرمني كان أول ضحية حديثة للمجازر الجماعية"! ولعل بابا الفاتيكان فرنسيس الأول أعطى يوم الأحد 12 أفريل، عند ترأسه قداسا احتفاليا بكاتدرائية القديس بطرس في روما، إشارة واضحة بأن المجازر التي ارتكبت تحت حكم الخلافة العثمانية بحق الأرمن ستكون ذكراها المئوية هذه السنة ذات طابع ديني وسياسي بإطلاقه وصف "الإبادة" على تلك المأساة التاريخية وبذلك يكون البابا فرنسيس، أول بابا للكنيسة الكاثوليكية يسمي مذبحة الأرمن "إبادة" بشكل صريح،حيث لم يستخدم أي بابا قبله كلمة "إبادة" في الحديث عن مجازر الأرمن في إطار قداس رسمي. ويبدو بابا الفاتيكان فرنسيس الأول مولعا بالتجوال في منعطفات التاريخ، ولكنه لا يركز اهتمامه إلا على المجازر التي ذهبت ضحيتها مجموعات من المسيحيين! يتهم عادة السلطان عبد الحميد الثاني بكونه أول من قام بتنفيذ هذه المجازر، ولا يخفى الرمز الديني في هذه الاشارة لكون السلطان عبد الحميد الثاني هو آخر خلفاء الدولة الإسلامية، ولكن الباحث الألماني الدكتور هيسمان كشف الدور الأساس الذي لعبه حزب الشباب الأتراك الذين لم يكن شعارهم "اللّه أكبر" بل "حرية، مساواة وأخوة"... فلم يكن من بين المسؤولين السياسيين، كما يقول،أي متطرف مسلم. كانوا شبابا، درس أغلبهم في باريس حيث اكتشفوا مُثل الماسونية. كما ذكر هيسمان أن طلعت بك، وزير الداخلية التركي في العام 1915، كان الرجل المسؤول عن الإبادة الأرمنية، ويحمل درجة ماسونية هي "عميد المشرق التركي الكبير". عاش الأرمن منذ القرن الحادي عشر في ظل الإمارات التركية المتعاقبة، وكان آخرها الإمبراطورية العثمانية، وقد اعترف بهم العثمانيون كأصحاب ملة معترف بها وكاملة الحقوق، وكانت سياسة السلطان عبد الحميد الثاني خصوصا تعتمد على تقليد ابناء الطوائف غير المسلمة مناصب رفيعة في الدولة العثمانية ويعطيهم التمثيل في البرلمان التركي ويعمل على إكرام وفودهم وإنصافهم من الولاة، وبلغ حرص السلطان عبد الحميد على التودد لأقليات الدولة، أنه لما تعرض عام 1905 لمحاولة اغتيال بتفجير العربة التي كان سيركبها، وتم القبض على الجاني وبعدما تبين أنه أرمني وعضو في إحدى اللجان الثورية الأرمينية المسلحة التي تطالب باستقلال الأرمن، عفا عنه السلطان عبد الحميد حرصا على مشاعر رعايا الدولة، غير أن سياسة تهجير شعوب الدولة العثمانية لم تصبح سياسة ثابتة إلا بعد وصول "حركة الاتحاد والترقي" الماسونية للحكم والتي يسيطر عليها اليهود، وكانت حكومة الاتحاد والترقي التي كان يرأسها الصدر الأعظم الماسوني (سعيد باشا)، تتشكل من أربعة وزراء يهود والباقي من الماسونيين، وهي التي أتمت عملية تهجير الأرمن. وإذا كانت المصادر الغربية والارمينية تقدر أعداد ضحايا المجزرة الأرمينية بما يفوق المليون ضحية، فإن المصادر التركية تذكر أن قتلى الأرمن لم يتجاوز ال300 ألف أرمني وتقول إن معظمهم مات بسبب البرد والجوع في ظروف الحرب العالمية الأولى التي جعلت هذه المنطقة عبارة عن جبهات قتال وإغارة.. وان الرقم الذي تقدره المصادر الأرمينية بمليون ونصف مليون أرمني هو رقم مستحيل لأن تعداد الأرمن في جميع أنحاء الدولة العثمانية حسب إحصاء 1914 بلغ مليون و219 ألف ارميني، اما حسب احصاء مصادر بريطانية فكانوا مليونا و56 الف ارميني، اما حسب احصاء اللجنة الفرنسية فكانوا مليونا و280 الف ارميني. دون الدخول في جدل الأرقام، يمكن القول إن قتل نفس واحدة بريئة هو جريمة ومأساة مروِّعة، ولكن ما هو أشد مأساوية وترويعا أن تتحول أرقام الضحايا إلى مجرد سجل للمتاجرة السياسية، وأن يتم اللجوء إلى الكذب وتزوير التاريخ بسبب المصالح السياسية والأحقاد الدينية، إذ من المقرف أن يتجاهل الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، حروب الإبادة والتطهير العرقي التي مارستها العصابات الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني ولا تتحرك مشاعره إلا تجاه مأساة وآلام الشعب الأرميني، ومن العار أن يتذكر بابا الفاتيكان إبادة الأرمن على يد العثمانيين ولا يتذكر مجازر الصليبيين في الشام وبيت المقدس، ولا مساهمة الكنيسة دينيا وعسكريا في غزو الجزائر وما أنجر عن ذلك الغزو من مجازر وجرائم لا تضاهيها المجازر التي ارتكبت ضد الارمن!