كرسته روايته الأولى "غدا يوم قد مضى" كواحد من الأقلام التي تحاول أن تكون لها بصمتها الخاصة في الساحة الأدبية، تلك الرواية التي تناول فيها زرياب بوكفة على طريقة الكوميديا الإيطالية أزمة العشرية السوداء. هو واحد من الذين يكتبون بذكاء ويطوعون اللغة، في عمله الأخير "ص" يستنطق أدبيا المسكوت عنه سياسيا. في هذا الحوار الذي خص به الشروق يتحدث بوكفة عن أعماله ورهانه الأدبي والكثير من أوجاع هذا الوطن. بين رواية "ص" و"غدا يوم قد مضى" رابط مشترك، الأزمة الجزائرية، ألم تشف بعد من جرح التسعينيات؟ وهل لجراح التسعينيات من شفاء؟ ما حدث وما يحدث جعلنا ندرك كم هي الحياة تافهة، وكم نحن تافهون كشعب، كوطن، كأمل ولد اعتباطا ومات اعتباطا. ما حدث كان مرآة لحقيقتنا المقرفة، كل تلك الرؤوس المقطوعة والأيادي المبتورة التي حرمت الدعاء، كل ذلك الدم من أجل ماذا؟ من أجل أمهات يجتمعن كل يوم حاملات حزنهن في صور أبناء اختطفوا حين غفلة من الإنسانية. من أجل بلاط حكومي منافق لأمراء الأمس، من أجل أن نتساءل اليوم عن معني التوبة وعن من كان يجب أن يعلن التوبة؟ من كان المستفيد من كل تلك الأصابيح التي توقظنا على موت حبيب، وكل تلك الأماسي التي تسير معنا من جنازة إلى جنازة حتى غدت كل مواقيتنا مقابر شاسعة تقتات أحزاننا وصمتنا. واليوم يمتد الماضي رأسا مقطوعة، قنبلة موقوتة، ويأسا بقوة الإيمان، وإيمان مرتجف بلا دعاء. الحقيقة أن ما حدث في التسعينيات لم ولن ينتهي حتى نشفى نحن من جبننا أو أن يشفى الوطن منا جميعا. كتاباتك تشتغل كثيرا على اللغة وكأنها بطل آخر، بل هي البطل الحقيقي لأعمالك. ماذا تمثل لك اللغة كبعد في الإبداع؟ أشتغل أكثر ما أشتغل على الصورة، محاولا ترويض اللغة لجعلها أكثر تعبيرية، وأكثر صدقا. فأنا أبحث عن طرائق صادقة لتصوير أحاسيس عميقة ومركبة. وللغة تلك الطبوع، والتلاوين التي يمكنها التعبير بمرونة وخفة عن أحاسيس آلياتها الوحيدة الصدق والعفوية. ولهذا فأنا أوافقك الرأي في أن اللغة هي البطل الرئيسي في كل ما أكتب. بين الشعر والرواية والعمل الصحفي، أيهما صنع الآخر فيك؟ كلهم، أضيفي إليهم الرسم والموسيقى وحتى بعض دروس الكمياء والبيولوجيا التي لم أنجح فيها تماما. فمن الشعر تعلمت تجميل الحقيقة، والعمل الصحفي صدمني بالحقيقة، وهزم كل مثالياتي، والرسم أفهمني معنى أن يكون الإبداع مرادفا للظلمة. "الرواية علم اختزال الحياة" كما يقول غونتر غراس في رواية "ص" تقارب بين شخصيتين، قريب الإرهابي وقريب الضحية والإثنان ضحية طرف ثالث غير معلوم، هل هذه إدانة لخيار المصالحة الوطنية؟ مصالحة وطنية على الطريقة الرواندية كما كانوا يقولون لنا وكأننا كنا في حرب أهلية، هل حقا كنا في حرب أهلية؟ بكل صراحة، مصالحة بين من ومن؟ المؤلم أن الجميع يعلم الإجابة ويكفر بها، الجميع حتى من رضوا ب70 مليون سنتيم تعويضا عن أهاليهم. هي قصة تشبه في قذارتها قصة معاوية، قاد حربا من أجل المال والسلطة، حرب "مكيجها" عبر قميص سيدنا عثمان رضى الله عنه بالدين والذود عنه، فقضت حربه فيما قضت على الدين نفسه. وحربنا أشعلوها باسم الوطن ولا علاقة للوطن بها، فقضت فيما قضت على الوطن نفسه. المحمولات التي جاءت في الرواية تحيلنا إلى واقع حقيقي. مقتطفات من خطابات المسؤولين، كلام جرائد وإحصاءات وأرقام وكأن النص ينبهنا من حين لآخر أنه حقيقة موازية. ما هي حدود المتخيل والحقيقي في نصوص زرياب بوكفة؟ كل المتخيل حقيقي والعكس يغتال الحقيقية. الحقيقي والمتخيل لا يتوازيان، بل يتزاوجان في تناسق يعطي للحقيقة إشعاعا أقوى وأصدق. المتخيل عندي ضئيل جدا للحتميات الدرامية كما يقول "البنائيون"، فأنا واقعي جدا لحد التصوير، أكتب ما أحسه لأراه. إحساسي بالظلم والغبن جعلني أرى دون وساطات، وما كتبت من فظاعات في "ص" قال عنها الطاهر وطار "ما هي إلا نقطة في محيط يا بني"، قال لها لي طبعا بالشاوية وبألم حقيقي. هل يؤمن زرياب بوكفة بالمجايلة في الأدب؟ أومن بالامتداد، بالتوريث، بالمتابعة والتواصل، أومن أن الإبداع عملية أزلية تتناسل من جيل إلى جيل. هذه هي المجايلة بالنسبة لي، أما إذا كانت قصصا قطبية وتطاحنا بين الذين كانوا والذين يريدون أن يكونوا فهذا صراع قتل الإبداع الحقيقي فينا. فكل جيل "يشم من قرنه" كما يقول المثل عندنا. فحلمي أن أقرأ لوطار جديدا أو حداد جديدا، حلمي أن أرى لهيب "محند اومحند" في كلمات شاعر شاب، أتأسف لقول هذا. أدبنا جميعا، أتحدث عن جيلي وما يليه، أدب لقيط، يلزمنا وعي حقيقي لنؤمن بمعني المجايلة. ما هو شكل النص الذي تحلم به؟ نص "الحوات والقصر" أو "الولي الطاهر يعود إلى مقامه الزكي" هذان هما النصان الوحيدان اللذان تمنيت لو كنت أنا من كتبهما. كنت قريبا نوعا ما من الراحل الطاهر وطار، وهو من نشر لك النص الأول ونصحك بعدم نشر الثاني، ما هي أبرز المواقف التي تذكرها معه؟ لم أكن قريبا نوعا ما من الطاهر وطار، قرأت له "عرس بغل" وأنا في الثانية عشر، أحببته وأحببت الأدب والجرائر بحبي له، حتى لو كان لقاؤنا الأول سنة 2000، فأنا كنت أقدسه منذ الطفولة، أذكر أنني قبل لقائي به أرسلت إليه "غدا يوم قد مضى"، ثم اتصلت به هاتفيا فكان أول سؤاله عن سني فأخبرته أنني أبلغ من العمر 27 سنة فضحك ولم يصدقني حتى التقينا في الجاحظية وأخبرني أنه اعتقد أنني أبلغ من العمر 50 سنة أو أكثر. تتالت لقاءاتنا رغم ندرتها وأصدقك القول أنها كانت كلها رائعة، يميزها نبل عمي الطاهر وطيبته وشاويته العذبة وخفة الدم من واقع وطن مزقته التفاهة. أجمل ما أحفظه عنه أنه حين أرد نشر "غدا يوم قد مضى" وكانت الرواية في 500 صفحة، لم يجد المال الكافي لطبعها، فظلت قيد الانتظار إلى حين زيارته للكويت بدعوة من الدكتورة سعاد الصباح التي سبق أن سمعت عن مشاكله التي يواجهها بسبب روايته "الشمعة والدهاليز" فقررت مساعدته ماديا لنشرها. وحين عودته إلى الجزائر راسلها ولدي نسخة من المراسلة واستأذنها في صرف إعانتها المادية له لنشر روايتي "غدا يوم قد مضى"، مؤكدا أن نشر هذا العمل أهم من نشره للشمعة والدهاليز، وفعلا نشر "غدا يوم قد مضى" بدل "الشمعة والدهاليز"، وإلى اليوم لا أجد ما أقول حيال هذا. ربي يرحمك يا عمي الطاهر.