مازال شباب المناطق الجنوبية لولاية البيض يغامرون في رحلات البحث عن الكنوز المدفونة، ويتواترون فيما بينهم حكايات الثراء السريع التي حولت حياة أناس كانوا ينعتون بفقراء القوم إلى أثرياء يمتلكون الذهب والفضة بعد عثورهم على دفائن نفيسة استخرجوها بمعية مشايخ محترفين قدموا من المغرب ومعهم خرائط المكان أو ما يسمى بالتقييد، وهذا رغم أن الأمر لا يعدو مجرد خزعبلات وخرافات. "الشروق" اقتربت من أحد المغامرين "ق.ط" 39 سنة، وهو أحد الذين قضوا سنوات في الحفر والبحث.. صال وجال فيها عبر الفيافي والصحارى والحمادات، وكانت توبته وتخليه عن تتبع "الكنوز المدفونة" أو كما يسمى "الركاز" من بين الأسباب التي ساعدتنا في إقناعه باصطحابنا إلى أحد الأماكن التي كان يتردد عليها رفقة "طالب" من المغرب واثنين من مرافقيه في رحلة مليئة بالمخاطر والمغامرات.
"شومارة" يتحولون إلى أُثرياء بعد الحصول على "الكنز المفقود" فبعد تحديد مكان وزمان الانطلاق اشترط علينا الشاب "ق.ط" أن نتنقل بسيارته والإبقاء على أعيننا مغمضة، حتى لا نتمكن من معرفة المكان.. كل ما أتذكره هو أننا انطلقنا في حدود الساعة الثانية صباحاُ ولم نفتح أعيننا إلا في حدود الساعة الثامنة صباحاٌ، وقبل أن نقترب من المكان المقصود، طلب منا أن نردد معه مجموعة أدعية وتعاويذ لتوفير الحماية لنا بحكم أن المنطقة تحرسها الشياطين.. كما أعلمنا بضرورة توخي الحذر وتجنب الحفر الموجودة بالقرب من بقايا جدران منهارة من أحد القصور القديمة التي تعود حسب ما أخبرنا به مرافقنا -وهو باحث في التاريخ- إلى 9 قرون إلى الوراء، فقبائل بني عامر كانوا يحلون ويرتحلون بحثاُ عن أماكن تواجد الماء والكلأ، وكانوا يتعرضون للغارات وهجمات قطاع الطرق، الأمر الذي يرجح بأنهم كانوا يقومون بدفن ممتلكاتهم من الذهب والفضة تحت الأرض وأحياناٌ تحت الجدران، فكانت مثل هذه الحكاية وغيرها من الأساطير.. ومن بين دوافع القيام بعمليات حفر وجدنا آثارها في كل زوايا القصر المنهار، حيث نسجت حولها حكايات وأساطير، فهذا عثر على قُلة من الذهب وآخر أضحى أغنى الأغنياء يبني العمارات ويقتني السيارات الفارهة بعد ما أحضر التقييد والخرائط من المغرب، وتحولت حياته من الفقر المدقع إلى الثراء الفاحش.
بخور خاص و15 حبة قمح بعد استراحة قصيرة، أطلق الشاب "ط. ق" العنان لاسترجاع ذكرياته وبدأ يسرد علينا تفاصيل مغامراته مع مشايخ وطُلبة المغرب ومريديهم من عدة مناطق من الوطن، كانوا ولسنوات طوال يترددون على عدة مناطق من ولاية البيض وفي عمق الصحراء، حيث كانت تتم مثل هذه التنقلات والزيارات في سرية تامة وتأتي بعد إبرام اتفاق مبدئي مع الوسيط الذي يتولى التنسيق بين الشباب المهووس بالبحث عن الكنوز والشيخ - الطالب - القادم من المغرب، حيث يشترط هذا الأخير أن يتولى الشباب عمليات الحفر، ويتولى من جهته تحصينهم وجلب بخور خاصة وغالية الثمن من المغرب على أن يتولى الباحث عن الكنز دفع تكاليف عملية تنقل الطالب والبخور التي يجلبها معه رفقة التقييد. ويفضل الانطلاق إلى المكان المحدد في جنح الليل وفق خريطة دقيقة يجلبها معه من المغرب، ولا يسمح لأي كان الإطلاع عليها، كل ما في الأمر أنه يسألنا من حين لآخر عن أسماء بعض الأماكن ويقارنها بخريطته، وحسب محدثنا فإن عمليات الحفر كانت تتم إما في الفترات الليلية أو ما بين فترتي العصر والمغرب، وقبل بداية الحفر، يقوم الطالب بعملية تدعى التربيع، يحدد مجالا دائريا للحفر ولا يجوز –حسبه - الخروج منه، ويجلس الطالب بالقرب من مركز دائرة الحفر ويضع 15 حبة من القمح في بؤرة المركز، ثم يأمرنا بالحفر ويقوم هو بقراءة بعض التعاويذ ويتمتم وأحياناٌ يصرخ وأحياناُ أخرى يأمرنا بأن نتوقف عن الحفر، والتوقف عن الكلام، فيقول لنا أن هناك مانعا ولا يمكن أن نواصل الحفر إلا بعد إسالة الدم وتبخير المكان.
ذبح دجاجة وتمائم لطرد الجن الحارس يواصل محدثنا سرد إحدى مغامراته على مسامعنا، بعد ما توقف واستجمع أنفاسه وآثار القلق بادية على وجهه، ثم قال: "تنقلت مع مرافق لي لجلب دجاجة حمراء اشترطها الطالب لإتمام عملية الحفر واستخراج الكنز إلى إحد الخيام.. فاقتنيت منهم دجاجة بمبلغ 500 دج، وبعد عودتنا وجدنا الطالب يقوم بالكتابة على أوراق يميل لونها إلى الصفرة برموز وجداول لم نفهم معناها وطلب من كل واحد منا أن يضعها على عمامته"، ويضيف: "ثم قام بذبح الدجاجة واشترط علينا أن لا يقربها أحد ولا يفكر أن يأكل من لحمها"، ثم طلب مواصلة الحفر بعد ما مالت الشمس إلى المغيب، ليصرخ بعد دقائق مطالبا بالتوقف. كما طالب إحضار الحطب، فانتقل هذه المرة مرافقي وبقيت مع الطالب فقال لي: "حصلنا على الكنز.. حصلنا على الكنز.. تعال لكي أحصنك أكثر قبل أن يعتدي عليك الجن الذي سيمنعنا من أخذه". وحسب مرافقي فإن ما يتواتره الباحثون عن الكنوز أن الذهب يتحول إلى تراب أصفر بعد مرور 40 سنة ويحرسه الجن ولابد من إحضار طالب أو راق لكي يفك القيد عنه، ويضيف أن "الشيخ الراقي" قام بقراءة معوذات وأدعية غالبا ما يصعب فهمها، إلى أن أغمي عليه، وحين استفاق قابله ضوء الشمس ولم يجد أثرا لأحد من مرافقيه، وحتى الأدوات التي استعملت في الحفر.
باحثون: الدفائن ظاهرة اجتماعية غذتها الأساطير والأوهام من جهته، قال مدير المركز الثقافي الإسلامي السيد محمد الجيلالي في موضوع الركاز أو الدفائن أنها حقيقة شرعية وعلمية اختلطت بالخيال والوهم والأساطير، مستدلاُ بقوله تعالى من سورة الكهف "وكان تحته كنز لهما" في إشارة إلى القصة بين نبي الله موسى عليه السلام والرجل الصالح سيدنا الخضر الذي قام باستظهار كنز اليتامى، وعلم الركاز هو علم باطني، أما الفقهاء استدلوا بالحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه وعن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: العَجْماء جَرحها جُبَار، والبئر جُبَار، والمعدِن جُبَار"، وفي الرِّكاز الخُمُس، ذهب الإمام مالك في تعريفه بالقول: "الأمر الذي لا اختلاف فيه عندنا، أنَّ الرِّكاز إنما هو دفنٌ يوجد من دفن الجاهلية ما لم يُطلب بمال، ولم يتكلَّف فيه نفقةٌ ولا كبيرُ عمل ولا مؤُن". في حين يرى أستاذ وباحث علم التاريخ نور الدين معمري بأن عملية البحث عن الكنوز والدفائن بمنطقة الجنوب الغربي ككل، ظاهرة اجتماعية لا تستند على أي مرجع تاريخي علمي، دافعها البحث عن الترقية الإجتماعية عن طريق الحصول على المال السريع بأي وسيلة كانت، وكثرة مرتاديها منساقون وراء الروايات المتواترة فقط.