اطّلعت على الطبعة "الجديدة" من "ديوان محمد العيد محمد علي خليفة"، الصادرة عن منشورات "مؤسسة محمد العيد آل خليفة"، وذلك في إطار "الجزائر عاصمة الثقافة العربية". بعد ما تصفحتُ هذه الطبعة تبادر إلى ذهني العبارة التي عنونت بها هذه الكلمة وهي: "ودين التاريخ أحقُّ أن يُقضى"، وهي كلمة للإمام محمد البشير الإبراهيمي(1)، رحمه الله. * كنا نود - وفاد للتاريخ، وأداء لدينه- أن يكون هناك مدخل تاريخي يعرّف القارئ بالظروف التي مرّ بها ديوان الشاعر الكبير محمد العيد آل خليفة، رحمه الله، * لقد كان الإمام محمد البشير الإبراهيمي - فيما هو مسجل - هو أول من نبّه إلى وجوب جمع شعر محمد العيد وطبعه، لأن بقاء هذا الشعر غير مجموع وغير مطبوع من علامات نقص النهضة الجزائرية، وعبارة الإمام حرفيا هي: "وإذا كان في النهضة العلمية الأدبية بالجزائر نواحي نقص فمنها أن يبقى شعر محمد العيد غير مجموع ولا مطبوع"(2). * إن الإمام الإبراهيمي معجب بشعر محمد العيد إعجابا كبيرا، وقد سجّل هذا الإعجاب أكثر من مرة، وليس سهلا أن يحوز شاعر إعجاب الإمام الإبراهيمي، الذي هو أحد صيارفة النقد وحذّاق الأدب شعرا ونثرا، وكان إعجاب الإمام بشعر محمد العيد من ناحيتين: * - من ناحية المبنى، فهو "شاعر مستكمل الأدوات، خصيب الذهن، رحب الخيال، متسع جوانب الفكر، طائر اللمحة، مشرق الديباجة، متين التركيب، فحل الأسلوب، فخم الألفاظ، محكم النسج ملتحمه، مترقرق القوافي، لبق في تصريف الألفاظ وتنزيلها في مواضعها، بصير بدقائق استعمالات البلغاء، فقيه محقق في مفردات اللغة علما وعملا..."(3). * - ومن ناحية المعنى، حيث "رافق شعره النهضة الجزائرية في جميع راحلها، وله في كل ناحية من نواحيها، وفي كل طور من أطوارها، وفي كل أثر من آثارها القصائد الغر، والمقاطع الخالدة، فشعره - لو جُمع - سجل صادق لهذه النهضة، وعرض رائع لأطوارها"(4)، فهو "صدّاح غير مدّاح "(5). * من أجل ذلك "لم يحمل - الإمام الإبراهيمي- همّا مثلما حمل همّ جمع أشعار محمد العيد في ديوان مطبوع"(6)، "وحمل الإبراهيمي هذه الهم معه إلى المشرق، ونذر نفسه لتحمل المسؤولية أمام التاريخ، على كثرة مسؤولياته وتشعبها، ووفرة تنقلاته وتباعدها"(7). * ويشهد الدكتور صالح خرفي فيقول: "ويوم التحقت بالقاهرة سنة 1957 كنت كثير التردد على الشيخ (الإبراهيمي) في مكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، فكنت أجد الشيخ موزعا في جريدة البصائر بين (عيون البصائر) (❊) و(عيون الشعر) عند محمد العيد، تنقيبا، وتوثيقا، وتعليقا" (8). * وقد ذكر الإمام الإبراهيمي في المقدمة التي كتبها لكتاب الأستاذ أبي القاسم سعد الله عن محمد العيد أن "شعر محمد العيد لم يُجمع كله، وإنما جمع الشاعر منه جزءا، وزدنا نحن بمعونة الأستاذ سعد الله عدة قصائد التمسناها في بعض الجرائد والمجلات الجزائرية الموجودة بدار الكتب المصرية"(9).. * وقد أكد الأستاذ الدكتور أبو القاسم سعد الله أن أصل ديوان محمد العيد كان عند الشيخ الإبراهيمي، الذي "تعلق بالكتاب كثيرا، وكان حريصا على طبعه، وكتابة تصدير له"(10).. * وإذا كان الإمام الإبراهيمي قد انتقل من الفانية إلى الباقية قبل أن تكتحل عيناه برؤية ديوان محمد العيد مطبوعا؛ فإن الله - عز وجل - قد قدّر أن يتولى وزارة التربية الوطنية الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، نجل الإمام الإبراهيمي، ف"حمل الأمانة وفاء بالعهد للشاعر والوالد معا، فانتدب لجنة لمراجعة الديوان مراجعة أخيرة، واستكمال نواقصه في التعليق والنصوص، وضمت اللجنة الأساتذة: حمزة بوكوشة، جلول البدوي، محمد الطاهر فضلاء " (11)، إضافة إلى الدكتور أحمد طالب والدكتور صالح خرفي، والأستاذ محمد خمار. * ولست أدري لماذا حُذفت مقدمة الدكتور أحمد طالب من هذه الطبعة، ومن حذفها؟ ولست أدري لماذا خذف تقديم الإمام محمد البشير الإبراهيمي؟ ومن حذفه؟ * فإن كان الحذف بسبب سوء نية وسوء طوية، يهدف من ورائه إلى بخس الناس أشياءهم؛ فقد أبى الله إلا أن يحق الحق، حيث غفل من تولى نشر هذه الطبعة عن الهامش الوارد في ص6 من الطبعة الأولى (ص18 من الطبعة الجديدة)، حيث جاء فليه تعليقا على كلمة "البشير" الواردة في بيت شعري ما يلي: * "إشارة إلى الأستاذ الكبير الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الذي يعود إليه الفضل في جمع جلّ قصائد هذا الديوان، والتعليق على أحداثها ومناسباتها الوطنية". * كما غفل الحاذف عن الأبيات الأربعة التي خُتم بها الديوان، وهي اعتراف من الشاعر الفحل محمد العيد بجميل الدكتور أحمد طالب، وفضله في نشر الديوان، وهذه الأبيات هي: * * سيحمد ديواني ل "أحمد طالب" يدا منه طولى قدّمته لينشرا * * تحمّل أعباء الوزارة قادرا فأورد عن رأي سديد وأصدرا * * ووّكل بالديوان أكفأ نخبة بتبصرة أعطى بها القوس من برى * * لقد أدلجت والصدق رائد ركبها فلا ريب عند الصبح أن تحمد السُّرى * * وعندما جمع الأخ الدكتور محمد بن سمينة مالم يدرج من شعر محمد العيد في ديوانه، وطبعه تحت عنوان "تكملة ديوان محمد العيد آل خليفة"(12)، أشار إلى هذه الحقيقة التاريخية، فقال: "وقد جمعه لأول مرة تلميذه - أي تلميذ الشاعر محمد العيد - أحمد بوعدّو، ثم سلّمه إلى الشاعر في عين مليلة سنة 1952، وهذا سلّمه بدوره إلى الشيخ البشير الإبراهيمي، نزولا عند رغبته بهدف طبعه، إلا أن الديوان ظل مخطوطا حتى استقلت البلاد، وقامت وزارة التربية الوطنية، وعلى رأسها الدكتور أحمد طالب بنشره في طبعة أنيقة جيدة"(12). * وإذا كنا قد رجّحنا سبب حذف مقدمة الدكتور أحمد طالب، وحذف تقديم والده الإمام الإبراهيمي؛ فإن الذي عجزنا عن فهمه هو حذف كلمة أمير البيان العربي، الأمير شكيب أرسلان، وهي كلمة قيمة عن شعر محمد العيد بعثها الأمير إلى مجلة الشهاب، التي نشرتها في الجزء الأول من المجلد 13. (مارس 1937). * إن "الشهاب" وصاحبه الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي يعرف أقدار الرجال، ويزن كلامهم بميزان الذهب، لا بميزان الحطب، قد قدّم لكلمة الأمير شكيب أرسلان بهذه الكلمة الأسمى تعبيرا، والأصدق شعورا، فقال: "حلّينا جيدَ هذا الجزء بكتاب من أمير البيان الأمير شكيب أرسلان في إعجابه بشاعر الجزائر، الشيخ محمد العيد، وطربه لشعره، واستعذابه لبيانه وأسلوبه، كما حلّيناه برسميهما الكريمين. فالجزائر كلها تشكر سعادة الأمير على شعوره الشريف نحوها، واهتباله بأبناء العروبة في كل قطر، وخدمته لها في كل ناحية من نواحي الحياة، كما تشكر ابنها البار الذي رفع رأسها بين شعوب العروبة، وأظفرها بهذه الشهادة الغالية". * وقد عجبنا لأمر المشرف على الطبعة "الجديدة" من ديوان محمد العيد، حيث تجاهل ما لا ينبغي تجاهله مما سبقت الإشارة إليه؛ ولكنه احتفظ بجميع التعاليق والتبويبات الواردة في الطبعة الأولى كأنها مما عملته يداه!!! * وكنا نود لو أن هذا المشرف على هذه الطبعة ضم إليها ما استدركه عليها الأخ محمد بن سمينة، الذي أشار في مقدمة استدراكه إلى هذه الفكرة فقال: "وإن الأمل كبير أن يدمج ما صنعته في هذا العمل مع الجزء المطبوع، وينسق هذا وذاك في مجموعة واحدة، ثم يقسم بعد ذلك نتاج الشاعر على ضوء منهج جديد..."(14). * إن هذه الطبعة "الجديدة" من ديوان الشاعر الكبير محمد العيد لا جديد فيها إلا مقدمة الأخ عبد العزيز بوتفليقة، وإلغاء مقدمة الدكتور أحمد طالب، وتقديم الإمام محمد البشير الإبراهيمي، وكلمة الأمير شكيب أرسلان، وترجمة صاحب الديوان. * كما أن جديدها هو كثرة الأخطاء، وتجاهل تكملة الأخ محمد بن سمينة. ولهذا فالواجب هو إعادة طبع الديوان بقسميه، أي الذي نشر في عام 1967، والمستدرك الذي نشر في عام 1997، مع عدم بخس الناس أشياءهم، ورحم الله محمد العيد، المعترف بفضل غيره، الشاكر لهم، أليس هو القائل: * * ومن لم يكن للورى شاكرا فما هو لله بالشاكر * * وحتى تكون الطبعة القادمة في مستوى الشاعر محمد العيد، وفي مستوى من عرف ويعرف قيمة محمد العيد؛ يجب أن يعهد بالإشراف عليها إلى أساتذة متخصصين، وشعراء متمكنين، وإنا لنعلم أن في الجزائر كثيرا من هؤلاء وهؤلاء، مع حسن نياتهم، وسلامة صدورهم. * * -------- * * 1) آثار الإمام الإبراهيمي ج1. ص314 * 2 - 3 - 4) أثار الإمام الإبراهيمي: ج1 ص314 * 5- آثار الإمام الإبراهيمي. ج3. ص582 * 6- صالح خرفي: محمد العيد خليفة ص27 * 7- المرجع نفسه. ص29 * ❊) "عيون البصائر" هو العنوان الذي عنون به الإمام الإبراهيمي المقالات التي اختارها مما كتبه في السلسلة الثانية من البصائر. * 8- خرفي.. ص 29 - 30. * 9) أبو القاسم سعد الله: محمد العيد آل خليفة. ط1. ص4 * 10) مراد وزناجي: حديث صريح مع أ.د. أبو القاسم سعد الله. ص83. * 11) صالح خرفي.. ص32 * 12) كان العنوان الذي اختاره الأخ ابن سمينة هو "العيديّات المجهولة"، قياسا على "الشوقيات المجهولة"، ولكن الناشر، الحاج الحبيب اللمسي، صاحب دار الغرب الإسلامي؛ اختار عنوانا آخر هو "تكملة ديوان محمد العيد آل خليفة". * 13) محمد بن سمينة: تكملة ديوان محمد العيد.. ص8 * 14) المرجع نفسه ص18.