ثقتنا بقدرة المقاومة على الصمود في غزة أمام العدوان، تحفزنا منذ الآن على استشراف آثار وتداعيات انتصار المقاومة على مستقبل الصراع العربي الصهيوني وقضيته المركزية: فلسطين التي أعادها الصمود الأسطوري في غزة إلى الصدارة، وأقبر مسار تسوية أوسلو وما أعقبها من خرائط أمريكية لتدمير الكيان الفلسطيني والعربي. وإذا كان انتصار المقاومة في لبنان قد أجهض مشروع الشرق الأوسط الأمريكي الجديد، فإن انتصار المقاومة في غزة يفتح مسار إعادة صياغة خارطة الفضاء العربي الموروث عن عهدي بلفور وسيكس بيكو، تعيد فيه المقاومة المبادرة للشعوب في تأمين مصالحها وأمنها القومي خارج إملاءات قوى الاستكبار. * بداية النهاية لإرث سايكس بيكو * ليلة الاثنين إلى الثلاثاء كانت منعطفا في الخرب الحقيقية الدائرة على شعب غزة الأعزل، ليس لأنها شهدت أعنف قصف جوي وبري وبحري أنسانا تلك الغارات المرعبة على بغداد، ولكن لأنها أقنعت الإدارة الصهيونية باستحالة تغيير الواقع السياسي والأمني بغزة كما تدعي دون دفع ثمن بشري لا يبدوا أن هذه الحكومة الضعيفة على استعداد لدفعه أربعة أسابيع قبل موعد الانتخابات، وأكدت للأطراف العربية استحالة التخلص من حماس التي أظهرت حقيقة قدرا من التماسك على جميع الجبهات العسكرية والأمنية والسياسية، وحسن إدارة للمعركة وللجبهة الداخلية بكفاءة عالية. * * حصار غزة للحلم الصهيوني * معالم انتصار المقاومة، وفشل العدوان في تحقيق الحد الأدنى من الأهداف، بدأ يطرح من الآن حاجة الفاعلين في النزاع العربي الصهيوني إلى البحث عن سبل التعامل مع مشهد يقترن فيه محاصرة الكيان الصهيوني بين فكي كماشة في الشمال والجنوب تمسك بهما المقاومة، وتضعه إلى الأبد تحت تهديد أمنه الداخلي، يقترن بتفكك لمحور الاعتدال الذي استندت إليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة لتمرير التسوية وتصفية القضية الفلسطينية بلا رجعة، وإدماج الكيان الصهيوني في منظومة شرق أوسطية يدير فيها مصالح القوى الغربية. * الثمن الذي يدفعه الفلسطينيون في هذه المواجهة، هو بلا ريب ثمن باهظ، قد يدفع فيه إن استمر العدوان الهمجي بنفس وتيرة التقتيل قرابة واحد إلى اثنين في الألف من تعداد سكان غزة، وقد يلحق قطاع عزة دمار يفوق الدمار الذي خلفه نفس العدوان على لبنان، لكن المكاسب من هذه المواجهة سوف تفوق حجم الثمن ليس فقط على صعيد الوضع في غزة غداة توقف صوت المدافع والصواريخ، ولا على مستوى القضية الفلسطينية التي سوف تعود إلى خيار المقاومة كقضية تحرير أرض واستعادة حق، ولا حتى على مستوى إعادة توزيع الأوراق والأدوار في منطقة الشرق العربي، بل سيكون من ثمارها الكبرى دخول قوى المقاومة الشعبية والممانعة كطرف معترف به في أي ترتيب للمنطقة يبحث عن قدر من الاستقرار. * * رصاصة الرحمة لأوسلو وأنابوليس * على مستوى الوضع في قطاع غزة، فإن الاستماتة التي أظهرتها فصائل المقاومة في استيعاب الضربات الجوية الغير مسبوقة، ثم في استيعاب زخم الهجوم البري في الليلة الأولى والتمكن طوال ثلاثة أيام من تثبيته عند حدود النسيج العمراني لمدن ومخيمات غزة، يكون قد قطع الطريق أمام أية معالجة سياسية أو أمنية للقطاع لا تكون الكلمة الأولى فيها لحماس، بل إنها تقطع الطريق أمام مساعي كانت تبحث منذ حين عن جناح معتدل داخل حماس يمكن استدراجه إلى طاولة المساومة. * انتصار المقاومة، إن هي استطاعت فقط الصمود إلى حين بداية ظهور الوهن داخل الإدارة الصهيونية، وهرولة حلفاء إسرائيل إلى المساومة على قرار بوقف النار، سوف ينهي إلى جانب الحصار العزلة السياسية لحماس إقليميا ودوليا، ويخرج حماس من ورطة المشاركة في ترتيبات أوسلو التي جرت إليها وكادت تنتهي بها إلى ما آلت إليه حركة فتح. * فلسطينيا، لن نكون بحاجة إلى من ينعي لنا مسار التسوية من أوسلو إلى خارطة الطريق وأنابوليس، لأنها تنتهي في اللحظة التي تتوصل القوى الدولية المعنية إلى إصدار قرار ملزم يوقف النار بأية صيغة كانت، حتى مع إصدار قرار قريب من القرار 1701 الذي أنهى المواجهة في لبنان. ذالك أن إسرائيل والولاياتالمتحدة والأطراف العربية المعتدلة سوف ترث حالة من الفراغ في السلطة الناشئة عن أوسلو مع انتهاء ولاية أبومازن هذه الليلة لا نرى كيف يمكن إعادة تفعيلها مع فريق رام الله المنهك، وبحركة فتح مختطفة، قد فقد الكثير من شعبيتها، وحلفاء عرب من محور الاعتدال قد فقدوا ثقة واشنطن وأوروبا فضلا عن ثقة شعوبهم واحترامها. * * إعادة تحرير منظمة التحرير * تصريحات قادة حماس في غزة ودمشق لا لبس فيها. فلا عودة إلى حوار مع فريق رام الله إلا تحت عنوان إعادة رسم قرار فلسطيني جديد يأخذ بعين الاعتبار فشل مسار التسوية، ونتائج المواجهة العسكرية الفاصلة الدائرة في غزة، بما يعني في الحد الأدنى، التزام القيادة الفلسطينية المشتركة في المستقبل بخيار المقاومة جنبا إلى جنب مع المسار السياسي بشرط ألا تقيد المقاومة بأي التزام يحرمها من حق المقاومة لإسناد المسار السياسي. وهذا يعني العودة إلى لحظة سابقة لأوسلو، والارتكاز على قطاع غزة المحرر، وعلى انتفاضة واسعة ودائمة بالضفة الغربية تضغط على الكيان الصهيوني إلى حين تبلور موقف إسرائيلي أمريكي وغربي يضمن في الحد الأدنى استعادة الضفة بالكامل خالية من بؤر الاستيطان إلى غاية حدود 1967 بما في ذالك القدسالشرقية واعتراف المجموعة الدولية بحق العودة وليس بالتسوية العادلة للاجئين. حماس قد تقبل بهذا الحل الذي له مرجعية دولية في القرار 242 الخاص بالحدود، والقرار 190 الذي يعترف بحق العودة، لأنهما يستجيبان على المدى البعيد لمبدأ استعادة فلسطين التاريخية عبر مسارات ديمقراطية تجول إسرائيل من دولة يهودية عنصرية مرفوضة إلى كيان تتعايش داخله الكتلتان الفلسطينية واليهودية بسلام. * * السلام خيار تراجيدي * على المستوى الإقليمي والواقع العربي، سوف يكون لانتصار المقاومة في غزة آثار وتداعيات غير مرئية بالكامل، استشرف منها على المدى المتوسط انكماش محور الاعتدال الذي سوف يكون مطالبا بالبحث بجدية عن بديل لسياسة "السلام خيار استراتيجي" وفي الحد الأدنى التعامل مع خيار الممانعة والمقاومة كخيار بديل بكل ما يتطلبه من إعادة تجنيد قوى ومقرات دول وشعوب المنطقة لدعم الخيارين. وعلى المدى البعيد للأنظمة وحدها عين نشوء مسار جديد يعيد كتابة جغرافية العالم العربي، ويفكك موروث سايكس بيكو بشكل من الأشكال. * المقاومة المنتصرة في لبنان، وفي الغد القريب في غزة، سوف تكون المرجعية التي تستند عليها شعوب المنطقة لاستعادة دورها، وفرض حدود حمراء على الأنظمة والحكومات في كل ما يتصل بالسيادة والأرض والحقوق. فمنذ اليوم لن يكون للأنظمة وحدها القرار في التعاطي مع مصالح هذا الفضاء العربي الكبير بسلوك الانبطاح والتفريط في الحقوق. ولن يكون بوسع الولاياتالمتحدة والغرب الاستمرار في التعامل مع هذه المنطقة وشعوبها كفضاء مفتوح إما للغزو والاحتلال كما جرى في العراق، أو للعبث بمقدراته ومصالحه عبر حكومات وأنظمة مستضعفة. وهي فرصة للأنظمة القائمة نفسها للعودة إلى تلاحم مع شعوبها التي سوف تكون وقتها على استعداد لمنحها ما يكفي من الوقت لتحقيق الإصلاحات وإعادة إشراك الشعوب في اتخاذ القرار بالوتيرة والتسارع الذي تقتضيه ظروف دول وشعوب العالم العربي. * * صياغة مبادرة عربية للحرب والسلم * حالة المصالحة والوفاق الذين تحققا في لبنان غداة انتصار المقاومة، وإشراك الفريق المقاوم في إعادة بناء الدولة اللبنانية كشريك في الحكم وقوة ردع داعمة لمنظومة الدفاع يمنح نموذجا لما يمكن أن تذهب إليه على الأقل دول الطوق سوريا والأردن ومصر، في حال عودة النظام العربي إلى خيار الممانعة والمقاومة حتى مع استمرار عرض السلام الدائم والعادل المعتمد في مبادرة السلام العربية التي تحتاج إلى إعادة صياغة تلتزم بأمرين: استعادة جميع الأراضي العربية المحتلة سنة 1967، والتمسك الكامل بحق العودة كما هو وارد في القرار 190. * آثار انتصار المقاومة قي غزة بما سوف تحققه من دعم لمحور الممانعة والمقاومة في المنطقة، لن تتوقف عند حدود إعادة رسم خارطة طريق عربية لتسوية النزاع العربي الصهيوني، بل سوف تكون لها تداعيات على مستقبل المشروع الأمريكي الغربي بالمنطقة، بدءا بإنهاء الاحتلال في العراق بما يكفل عودة السيادة الكاملة لهذا البلد العربي الكبير، وانتهاء بمعالجة الدور الإقليمي لإيران في المنطقة ضمن توافق عربي إيراني يجعل من إيران شريكا في الأمن القومي العربي الإسلامي في المنطقة إلى جانب تركية العائدة بقوة. * * البحث عن مشروع أمني إقليمي * قد يرى البعض في ما سلف محض تمنيات لا يسندها واقع، وإن وجد ما يسندها فإنها سوف تحارب بضراوة من قبل الولاياتالمتحدة والغرب، وهذا صحيح، بل ينبغي أن نتوقع مع الفشل المرتقب للعدوان الإسرائيلي على غزة احتمال ذهاب قوى الاستكبار الغربية إلى مغامرة إقليمية تشعل المنطقة بالكامل بتسريع عدوان واسع على إيران وسوريا، قد لا يتردد في اللجوء إلى وسائل غير تقليدية بعدوان يرتقب ردا إيرانيا يكون مبررا ومسوغا لعدوان نووي يكرر محرقة هيروشيما ونغاساكي، وتلكم قصة أخرى بوسع دول وشعوب المنطقة أن تبعد شبحها وتداعياتها الكارثية على مجمل الشعوب العربية والإسلامية، بالذهاب سريعا إلى فتح حوار استراتيجي مع شركائنا في أمننا القومي: إيران وتركيا، والبحث معهما عن سبل إبرام صفقة مع الولاياتالمتحدة في الأساس تؤسس لإدارة راشدة لأمن في المنطقة توازن بين مصالح الولاياتالمتحدة وحق دول المنطقة في إدارة الأمن بالمنطقة كقوى إقليمية شريكة يفرد لها دور في قضايا الأمن والسلم، بيدها أكثر من ورقة لتأطير مظاهر التطرف والعنف الذي لن يتحقق إلا بتسوية عادلة للنزاع العربي الإسرائيلي من جهة، والاعتراف لدول المنطقة بحق امتلاك مقدرات أمنها القومي، ورفع الحظر عن مشاركة القوى الإسلامية والقومية في إدارة شؤون شعوب المنطقة وفق مرجعيات شعوب المنطقة لا كما تريده قوى الاستكبار الغربي.