لا يماري أحد في الخسائر التي ألحقها العدوان الصهيوني الغاشم على فلسطينيي قطاع غزة، فلقد كانت بحق إبادة جماعية تؤكد كل مرة بما لا يدع مجالا للشك تعطش بني صهيون لإراقة الدماء، بل والتشدق بعبثية منقطعة النظير تضاهي عبثية عشقهم للمال كما صورها شيكسبير في ''تاجر البندقية''. كما أن الألم المرافق لهذا العدوان لكل من يشاهد ما يحدث في القطاع على شاشات الفضائيات، والشعور بالخزي والمهانة جراء انعدام وانقطاع حبال النصرة، وسريان الضعف حتى إلى مبادرات سجلت تحت يافطة ''أضعف الإيمان''، لا يجب أن ينسينا ما يجري على الجانب الآخر، وفي معسكر الصهاينة الذين كثيرا ما روجوا كما روج المطبلون والمزمرون لهم من سياسيين عرب ورجال دين مسلمين -الدين براء منهم- لعبثية صورايخ المقاومة، التي يظن العربي المسكين المغلوب على أمره، والمنهك في غياهب الحياة كما يوردها له هؤلاء وكأن الصهاينة يتلقون تلك الصواريخ بصدورهم كما اشتهر اللاعب الأرجنتيني الأسطورة ''مارادونا'' بتلقيه كرات الجلد المنفوخ على صدره، وهو يتفنن بعد ذلك في رجها ذات اليمين وذات الشمال موظفا قدميه وكتفه لصناعة الفرجة والإثارة. صحيح أن صورايخ المقاومة محلية الصنع، ربما مادتها الأولية طحين وأرز وسكر وزيت وبقايا براغي، لكن مفعولها لمن يتابع القنوات الفضائية الغربية، ولمن تمكن من متابعة بعض القنوات الصهيونية على نزرها الشديد جدا تؤكد بلا مواربة أن لها مفعولا عبثيا جعل من الرد الصهيوني أكثر عبثية واسترسالا في بيان وتوضيح العبثية والعبثية المضادة يلزمنا الوقوف عند بعض المحطات، لعل الأولى بالتوقف عندها، هي الصمود الذي أبداه سكان غزة رغم النزيف وغياب المدد، ووصل إلى حد الساعة ثمانية أيام تحت القصف المركز والأعمى بأيامها ولياليها، وهو ما لم تصمد له الجيوش العربية لدول الطوق مجتمعة ذات صيف من سنة 67 من القرن الماضي، حتى أنها عرفت بحرب الستة أيام، جعلت من هؤلاء عرضة لعهر الكيان الصهيوني ستة أيام بلياليها لم تبق لهم، ولا لغيرهم ذرة شرف، وهو (أي صمود سكان غزة) ما يزيد في ضرب العقيدة القتالية الصهيونية في مقتل، بعد أن مرغت أنفها في التراب المقاومة اللبنانية قبل سنتين فيما عرف بحرب تموز، رغم الفارق في العدة والعتاد والدعم، والخسائر. ومن تداعيات هذا الصمود، هو تردد قادة الجيش الصهيوني وسياسيي دولته في الإقدام على اجتياح بري، ليس خوفا من المقاومة، إذ يمكنهم إصابتها والتضييق عليها، وإنما خوفا على صمود آخر ومن نوع آخر قد يضيف سهما نوعيا في قلب العقيدة القتالية الصهيونية، لاسيما ودولة الكيان العبري على مقربة من انتخابات نيابية، للعدوان على غزة ومدى تحقيق أهدافه دور مركزي في ترجيح كفة طرف على آخر. ويمكن الإضافة إلى ما سبق، رعب منقول إلى المعسكر الآخر بصواريخ الزيت والسكر، فيكفي المقاومة فخرا، أن عددا معتبرا من المدن المحتلة من الصهاينة على نطاق يفوق 40 كلم عن قطاع غزة، لجأوا إلى الملاجئ، كما تلجأ الفئران إلى جحورها، وأن الخدمات العمومية في تلك المدن مهتزة ومتذبذبة، فضلا عن تعطيل الدراسة في المدارس والجامعات إلى إشعار آخر، والأجمل في كل ما سبق هو هجرة جماعية من هؤلاء اليهود القادمين من كل حدب وصوب تحت شعار ''شعب بلا أرض يزيح شعبا من أرضه''، مهرولين اتجاه الشمال ولأبعد النقاط كما يفر شذاذ الآفاق كي لا تطالهم شظايا صواريخ السكر والزيت العبثية. وبعد كل هذا يأتي اجتماع وزراء الخارجية العرب الأربعاء الماضي، وبضغط من عنصرين معروفين يتم إرجاء الحديث عن قمة عربية طارئة، ويوصي الذهاب إلى الأممالمتحدة لشرح الموقف منتصف هذا الأسبوع، ولسان الحال يقول، على دولة الكيان الصهيوني أن تحسم الأمر وفقا لحسابات الرياضيات الكلاسيكية، بتمديدهم لمهلة تأديب المقاومة، وإقناع فلسطينيي القطاع وعرب القطاع بأن الحل في الرضوخ للسياسة المنتهجة في المنطقة والتي أسس لها باتفاقيات كامب ديفيد مع السادات، وثنّتها باتفاقيات أوسلو، وفرض دولة الكيان الصهيوني والتطبيع من المصافحة إلى التقبيل إلى أشياء أخرى كأمر واقع، رغم أن العقيد الطاهر الزبيري آخر قادة الأوراس الثوريين يروي في مذكراته المنشورة مؤخرا، أن والده كان يعيد وضوءه كلما صافحه معمر فرنسي أثناء الحقبة الاستعمارية، مما غرس فيه بذور الوطنية والمقاومة وهو لم يبلغ الحلم بعد. المهم في كل ما سبق، أنه بإمكان عدوان الصهاينة، وضغوط عرب الطوق فرض جزء من شروطهم على المقاومة في غزة، وبإمكان السلطة الوطنية الفلسطينية وخياراتها أن تعود إلى القطاع على ظهر الدبابة الإسرائيلية، لكن ما دام فيه أناس يفكرون بنفس منطق والد العقيد الطاهر الزبيري، وما دامت العقيدة القتالية الصهيونية تصاب في مقتل كل مرة فإن ذلك من المبشرات.. أولم يعلمنا التاريخ أن مصداقية المبشرات وقوتها تمر دائما عبر الجراح.. عبر الأزمة.. من عنق الزجاجة؟