عندما عادت أول أمس "الشروق اليومي" إلى قرية القلعة القابعة على ربوة منسية بعاصمة الغاز والبحر والغابات سكيكدة بمناسبة عودة المعتقلين الجزائريين لدى الدولة العبرية، كنا نمنّي أنفسنا مشاهدة جارفة أو رافعة أو آلة حفر أو على الأقل مسؤولا واحدا يوزّع الوعود للاهتمام بانشغالات شباب هذه القرية الذين يرضعون "الحرقة" ويتعلمون اللغات الأجنبية من أجل ركوب البحر والطيران إلى أي مكان في العالم. * * * وهو ما جعل شباب هذه البلدة وفي رحلة تيهان يصلون إلى أيدي الاسرائيليين، لكننا صدمنا بأن لا شيء تغيّر، وحال القرية لا يختلف عما شاهدناه قبل عودة المعتقلين إلى ذويهم، هذا إذا لم يكن قد ازداد تدهورا. * طبيعي أن راكب البحر أو المحلق في الجو إنما دفعه إلى ذلك العوز والحاجة لإثبات الذات، وطبيعي أن يسأل المسؤول عن أخبار هذا الذي ربط إسم بلديته وبلده ولو بطريقة غير مباشرة بإسرائيل؛ ولكن غير الطبيعي أن يبقى صاحب الحل والربط مكتوف الأيدي يتفرج "بفضول" عما يجري من حوله وكأن الأمر لا يعنيه. * فإذا كان تعثر "بغلة" في بلاد الرافدين يسهّر الفاروق عمر، ويجعله يخشى مساءلة الله له يوم القيامة، لأنه لم يصلح الطريق لتلك البغلة البعيدة عن موطنه، إذا كان هذا هو حال فاروق الأمة فإن عثرة أبنائنا من طالبي الهروب من همومهم قد قذفت بهم نحو الهاوية الإسرائيلية، ولا أحد خشي أن يسأله ضميره على الأقل لماذا لم يصلح الطريق المؤدي إلى الكرامة التي افتقدناها مع هؤلاء "الحراقة" الذين فضلوا أن يكونوا طعاما لحيتان البحر "الأسود" المتوسط على أن تبتلعهم البطالة بأنيابها التي لا ترحم. * ليس مشكلة أن نخطئ في حق أنفسنا وفي حق أبنائنا، وليس مشكلة أن يخطئ أبناؤنا في حق أنفسهم وفي حق القائمين على شؤونهم؛ ولكن المشكلة أن يتواصل الخطأ ليتحول إلى خطيئة في حق وطن ظل دائما رمزا من رموز العزة والممانعة. * أغادير المغربية دمّرها زلزال عام 1960 فقتل 15 ألف نسمة، ومسح المدينة من الوجود فلملمت جراحها وصارت جوهرة المحيط الأطلسي التي تستقبل أزيد عن مليون سائح أجنبي كل موسم إصطياف. وهيروشيما اليابانية التي دمرتها القنبلة الذرية الأمريكية عام 1945 وقتلت وأصابت خلالها أزيد عن مئتي ألف نسمة هي حاليا من أجمل مدن العالم. وكاليفورنيا الأمريكية التي فتك الجفاف بالحياة في ربوعها نهائيا عام 1902 هي من أخضر جنان المعمورة وعاصمة الماء الآن. ودبي التي كانت مركز الجراد والعقارب هي حاليا عاصمة المال والأعمال. و"نيفادو دال رويز" الكولومبية التي بخّرها من الوجود بركان عام 1985 وقضى على 30 ألفا من أبنائها هي الآن جوهرة أمريكا اللاتينية.. أما القلعة التي تحيط بها خيرات مركب الغاز وشواطئ سكيكدة فقد ضربها زلزال التهميش وقنبلة اللامبالاة وبركان البؤس وجفاف قلوب مسؤوليها فناءت بوجهها عن أبنائها حتى قذفتهم "الحرقة" إلى "أحضان" الصهاينة وذلك أصعب ما يمكن أن تصله ظاهرة الهروب من البلاد عندنا. * في كل دول العالم وكما دوّن ذلك جمال الدين الأفغاني الأزمة تلد الهمّة.. إلا عندنا فهي تلد مزيدا من الهموم.