حسام تمام أبرز ما في ثورة الإعلام التي نعيشها هروب البرامج الحوارية الساخنة(التوك شو) من السياسة والثقافة إلى الدين والجنس! * لم تعد القنوات الفضائية تفضّل كثيرا الخوض في السياسة الصريحة أو الثقافة الجادة؛ فهي لا تريد دفع الكلفة السياسية أو لا تقدر عليها، كما لا تحترم كثيرا الثقافة أو لا تفهمها، فكان أن هربت نحو الدين والمجتمع لتبحث فيه ليس عن القضايا التي تصلح للنقاش في الحياة العامة؛ وإنما عن أكثر ما فيه جاذبية وإثارة وتشويقا! * * لقد صارت موضوعات الجدل الديني والمناظرات الفقهية والمذهبية والعقائدية كقضايا مفضلة للفضائيات، فالتنصير والأسلمة، والتشيّع والتسنن، وأدق المسائل الفقهية وأغربها مثل رضاع الكبير والتبرك ببول النبي.. صارت في صدارة البرامج الدينية أو"التوك شو" الديني!. * * كما أن أسرار الفراش وموضوعات غرف النوم؛ من حجم الأعضاء وأوضاع الجماع وطريق الوصول إلى الذروة وما يستحي القلم من ذكره، صارت تطرح في برامج على الهواء مباشرة، يتصل فيها المشاهدون بالضيوف ليعرضوا عليهم تساؤلاتهم ومعاناتهم في غرف النوم! واختارت إحدى القنوات سيدة محجبة لهذا الغرض كان أهم ما تعرف به نفسها أنها أول عربية تحصل على الدكتوراه في السكسولوجي!. * * يحتج القائلون بالحق في عرض الخلافات الدينية وتناول الجنس على الهواء مباشرة في البرامج الفضائية بأن هذه القضايا موجودة وأكثر منها في التراث الإسلامي وأن الفقهاء والعلماء كانوا يتكلمون فيها بحرية ويقولون فيها ما لا نستطيع البوح به الآن في عصر حرية الرأي والتعبير والسموات المفتوحة بلا رقابة! * * ويستشهدون بالمناظرات الدينية التي كانت تزخر بها العصور الإسلامية الزاهية والتي كانت تشهدها المساجد ومجالس العلماء ودواوين الملوك والأمراء، ويشيرون إلى كتب الملل والنحل التي كتبها أمثال البغدادي وابن حزم وغيرهم من الأئمة والعلماء. * * أما في شأن قضايا الجنس والفراش، وهي أكثر جاذبية بالطبع والطلب عليها أوفر، فيسعفهم ليس فقط تراث "ألف ليلة وليلة" و"عودة الشيخ إلى صباه"، بل كتب التيفاشي والنفزاوي وحتى العلامة الأشهر جلال الدين السيوطي مجدد عصره الذي تكلم بشكل مكشوف عن الجنس في كتابه الشهير( نضائر الأيك..)! * * وعليه ففي نظر أصحابنا أنصار "التوك شو" الديني والجنسي فبأي حجة ووفق أي منطق ننتقدهم، إذا كان الفقيه ابن حزم خصص كتابا في قضايا الخلافات العقائدية والمذهبية في حين كتب السيوطي في الجنس والفراش؟! * * لا يلتف أصحابنا في "التوك شو" إلى أن القياس لا يصح على الأقل بمنطق الوسيلة الإعلامية التي ينصبون أنفسهم خبراء فيها، هذا بعيداعن منطق العيب والخطأ وما يجوز وما لا يجوز! * * فلم تكن المناظرات الدينية تحدث على نحو ما يشيعه أنصار "التوك شو" الديني في الفضاء العام بين العوام والبسطاء وجمهور الناس، كان علماء الكلام والأديان يجتمعون في مجالس محدودة، سواء أكان مسجدا أو ديوانا يضمهم، ولم يكن يتجاوز جمهورهم عددا ضئيلا من خلاصة طلابهم المختصين في الأديان والعقائد أو ما يعرف بعلم الكلام، وإذا اتسع الأمر فليضم الملوك والأمراء وحاشيتهم على سبيل التثقف حينا والترفيه أحيانا! ولم يكن يجمع العلماء عوام الناس وجمهورهم للمناظرة بين عقائد السنة والشيعة أو بين المسلمين والنصارى.. وغيرها من القضايا التي يمكن أن تشعل حروبا أهلية. * * وكان السيوطي وغيره ممن كتب في الجنس والفراش إذا انتهى درسه، في علوم القرآن والفقه والحديث والأصول واللغة والأدب وغيره من العلوم النافعة، وأراد أن يرّوح عن نفسه وتلامذته جمع صفوة هؤلاء التلامذة وأقربهم إليه في مجلس خاص بعد انتهاء دروس العوام، وقصّ عليهم مما يعرف ويحب في هذه الأمور فتلقاها عنه بعض تلامذته فدوّنوها في أوراق تناقلوها عن شيخهم، وكان أقصى ما يمكنهم فعله نسخا قليلة لا تتسع دائرة النقاش بها عن خاصة الخواص، فلم نسمع يوما أن عالما وفقيها من هؤلاء الأكابر خطب الجمعة مثلا في طول العضو وقصره أو رعشة الشبق ومدة الجماع كما يصوّر لنا أصحابنا في "التوك شو"! * * لا أتصور مثلا أن ابن حزم لو كان حيا اليوم سيطل على الناس في برنامج يشاهده الملايين يسفه فيه الملل والمذاهب والأديان الأخرى حتى ولو كان دفاعا عن الإسلام وعقيدة أهل السنة والجماعة، كما لا أتصور أن السيوطي يمكن أن يحل ضيفا في برنامج "توك شو" فيترك أصول الدين ليحدث الناس في أصول الجنس والفراش! * * ولماذا نتكلم عن السيوطي وابن حزم فقط وليس علماء اليوم الذين يمثلون امتدادا لهؤلاء الأعلام؟ هل كان الشيخ يوسف القرضاوي ليحول برنامجه في قناة الجزيرة إلى "الجنس والحياة"؟، وهل يقبل الشيخ على جمعة مثلا أن يخصص لقاءه في التلفزيون للذين لا تجاوز همومهم حدود السرير؟!. نعم؛ قد يتكلمان عرضا وردا على سؤال عابر، ولكن لا يصل الأمر لتخصيص حلقات وبرامج لهذه القضايا. أضرب مثالا بالرجلين لأن كليهما يجمع بين العلم والفقه وسعة الصدر والظرف وخفة الدم مثل غالبية شيوخ الأزهر الشريف، الذين يرتدون لكل مقام ما يصلحه. * * لقد أدى اختراع المطبعة ثم ثورة الإنترنت والفضائيات إلى تغيير كبير في طبيعة المعرفة وطرق تداولها، مما يستحق أن نأخذه في الحسبان، والمناظرات الدينية التي كانت تدور في التراث المخطوط والمنسوخ يدويا يجب أن تخرج بحدود لا إلى الفضاء المفتوح، كما أن قضايا الجنس التي كانت تعالج كتابة وفي حدود لا يجب أن تصبح مثل الماء يكفيك أن تفتح الحنفية ليتدفق عليك بلا حساب!