بداية أود أن أؤكد أني لست من المهتمين بشؤون كرة القدم، ولست من الذين يريدون صب المزيد من الزيت على النيران المشتعلة بين الشعبين الشقيقين مصر والجزائر، ولا حاجة بنا في هذا المقام إلى التذكير بالتاريخ المشترك والدين واللغة والثقافة والمصالح... * * * والدماء المصرية الجزائرية التي سقطت في الثورة التحريرية وحرب 1973، فالشعبان المصري والجزائري إخوة في الدم والعرق فالجيش الذي فتح قاهرة المعز منتصف القرن العاشر الميلادي معظمه من الجنود الجزائريين الذين استقروا بمصر، وأصول كثير من الجزائريين من قبائل بني هلال التي استقرت زمنا طويلا بصعيد مصر، وقدمت أيضا أواخر القرن العاشر الميلادي من مصر إلى الجزائر، وأن هذا الذي حدث لا يعدو أن يكون سحابة صيف عابرة، ستنقشع عن قريب. * لكن ما لاحظته من خلال متابعتي لوسائل الإعلام المصرية والجزائرية قبل، أثناء وبعد المباراة الفاصلة، خصوصا بعد تصريحات كثير من العلماء والإعلاميين ورجال السياسة والثقافة المصريين، والتي تميزت بكثير من التعصب المقيت والشوفينية الضيقة، والتي مست التاريخ والمقدسات ورموز الدولة الجزائرية والتي يجلها الجزائريون، جعلت من السكوت أمرا غير مقبول، وأنه يجب الرد وتوضيح بعض الحقائق الغائبة والمغيبة عن كثيرين من الإخوة المصريين، وقد ترددت بعض الشيء قبل كتابة هذه الأسطر، ولكن بالنظر إلى شدة الحملات المصرية على الجزائر رأيت من الواجب الديني والوطني والإنساني والأخلاقي الرد على هذه الترهات والأباطيل. * أولا يتحمل الإعلام المصري المسؤولية كاملة، بنسبة تزيد عن ال 90٪، وكانت البداية من تصريحات أحد أشباه الإعلاميين بمصر في برنامج "القاهرة اليوم"، على تلفزيون "أوربيت"، عشية مباراة العودة بين الجزائر ورواندا: "لماذا الجزائريون يكرهون المصريين؟ فقد ساندنا ثورة المليون شهيد، إحنا اللي طوّرنا الجزائر، وعلّمناهم العربية..."، وإن كان كرهه للجزائر وصوته لا يعبر عن موقف الشارع المصري وقد تصدت جريدة "الشروق اليومي" مشكورة لحملة هذا "الفاسق الذي يأتي للناس بأخبار كاذبة ويحاول نشر الفتن والقلاقل النائمة". * ويبدو أن الذي يقف وراء هذه الحملة ضد الجزائر هو بعض الأجنحة في النظام السياسي المصري، وتوظيف هذه المباراة توظيفا سياسيا، ففي "ظل ضعف الانتماء، يستخدم النظام المصري الوطنية الكروية ويوظفها بهدف إلهاء المواطنين عما تمر به مصر من مشكلات سياسية واقتصادية ومعيشية، حتى لا يفكروا مثلا في التوريث السياسي أو القضايا القومية الكبرى مثل الانتهاكات التي يتعرض لها المسجد الأقصى". كما تذهب إلى ذلك المعارضة المصرية. * وما يعضد هذا الطرح هو مشاركة الرئيس حسني مبارك نفسه وحضوره شخصيا لتدريبات الفريق المصري، وطالبهم بتحقيق النصر.. "كما لو كنا في معركة يحاول فيها التعبئة النفسية للجنود"، كما علقت بعض الصحف المصرية على ذلك، ثم الحضور القوي لولديه جمال وعلاء منذ بداية المواجهة بين الفريقين. وقد جاء في تصريحات خاصة ل "إسلام أون لاين.نت" أنه: "كان أجدى بالإعلام مناقشة أسباب ما حدث من توتر، بدلا من الثناء على الدور البطولي للرئيس ونجليه الشجاعين". * ثانيا أريد أن أؤكد فقط على أمر واحد ووحيد، والذي دار حوله جدل طويل عريض، هو أن هذه الهبة الشعبية العفوية والمؤازرة الوطنية الصادقة لأعضاء الفريق الوطني كانت بسبب حادثة الاعتداء على الحافلة التي أقلتهم إلى الفندق -ولا أريد الدخول في تفاصيلها فقد شاهدها العالم بأسره إلا مصر-، والاعتداءات التي تلتها من إهانة للنشيد الوطني بداية المقابلة وسوء معاملة رجال الدولة الجزائرية الممثلين للشعب الجزائري والدولة الجزائرية، أثناء المقابلة. ولم يكن ذلك بسبب كرة قدم، أو على حد تعبير بعضهم من أجل "جلدة هواء"، فالأمر في اعتقادي أعمق من هذا بكثير وأخطر، فلم يكن الجزائري لينتفض هذه الانتفاضة الرائعة ويقف هذه الوقفة البطولية التاريخية لو لم يحدث هذا الظلم والتعسف والاحتقار لضيوف مصر من طرف المصريين أنفسهم، وصمت سلطاتهم السياسية وكافة طبقاتهم الاجتماعية على اختلاف مستوياتهم، فلم نسمع كلمة واحدة من عالم أو داعية أو رجل سياسة وثقافة أو فنان أو أديب تدعو إلى دفع البغي عن الجزائريين، لا بل تدعو فقط إلى التعقل وإيقاف المهازل التي كانت تحدث تحت نظرهم وبحضورهم وموافقتهم ومباركتهم. * ويبدو لي أن المواقف المشرفة للسلطات العليا في الجزائر كانت نتيجة وردة فعل على المواقف المخزية التي قامت بها أجهزة المخابرات المصرية تجاه أبنائنا في القاهرة. ودعك من محاولات بعضهم تفسير ما جرى من أنه نتيجة الاحتقان السياسي والفشل الذريع في إدارة شؤون البلاد، قد يصدق هذا الكلام على الإخوة بمصر، لكن بالجزائر الأمر مختلف تماما. * وفي تصوري أن المصريين لو تركوا الأمور على الطبيعة، لسارت بشكل عادي ولما أخذت كل هذه الأبعاد، ولما رأينا كل هذه الحشود المناصرة للفريق الوطني -وحتى لو خسرت الجزائر المباراة لكنا أول المهنئين- ولما نزلت مصر إلى هذا الحضيض الأسفل من التعاطي مع الأحداث، ولما خسرت صداقة ومحبة واحترام الجزائر والجزائريين، ولحافظت على ما بقي لها من مكانة في العالم العربي والإسلامي.