ثالثا: توسع دائرة النقمة الشعبية من نشاطات هذه الجماعات، فقد كانت "الجماعة السلفية" بعدما انشقت من تحت عباءة عنتر زوابري وتياره التكفيري الدموي أرادت أن تكسب الود والدعم الشعبي من خلال محاولاتها تبييض وجهها من جراء السواد الذي لحق كل المسلحين من مجازر وجرائم "الجيا"، ولكنها أخفقت وخاصة أن قيادتها لم تستطع السيطرة على مجنديها فصاروا يمارسون الحرابة والسرقة والاعتداءات المتكررة على المواطنين والابتزاز والاختطافات التي استهدفت في غالبها مدنيين من رجال أعمال ومقاولين ومؤسسات خاصة. بل يفرضون الجزية على المواطنين، وقد أصدر في ديسمبر 2008 أحدهم يدعى أبوتراب الجزائري فتوى تحت عنوان "الصارم الباتر على رقاب نصارى الجزائر" دعا فيها "الجماعة السلفية" إلى وجوب إرغام القبائل - متنصّرين أو مسلمين- على دفع الجزية وهم صاغرون على حد تعبيره. لقد ظنّ المسلحون بعد الأغلبية الساحقة التي حققها الإسلاميون في انتخابات 26ديسمبر1991 أنه بمجرد إعلانهم التمرد والثورة على النظام سيجدون الشعب كله تسلح عن بكرة أبيه لخدمتهم، وهو الذي لم يتحقق والسبب أن الشعب يريد السلم والأمن والاستقرار ليس الحرب والدماء والدمار. واليوم بعد تلك المسيرة الدموية فقد كان رهان القاعدة الأم على الجزائر هو خطأ فادح ومغامرة غبية للغاية نظرا للسمعة السيئة التي يتمتع بها هؤلاء المسلحين بين طوائف الشعب، الذين آذوه في روحه وماله وعرضه وكرامته وخبز صغاره. وأكثر من ذلك أن إستمرار الحرب على المدنيين تواصل مع العمليات الإنتحارية التي تؤكد قوائم الضحايا أن أغلبهم من عموم الشعب. فمشاهد "الجيا" في بن طلحة والرايس والرمكة وحتى تفجيرات شارع العقيد عميروش وساحة الأمير... إلخ، لم تغادر المخيل الشعبي حتى أعاد درودكال وبتزكية من الظواهري تلك المشاهد الدموية مما أسقط بن لادن في الوحل رغم وجود المتعاطفين معه من عموم الناس وخاصة في صراعه مع الولاياتالمتحدة..! رابعا: الشرعية القانونية والدولية التي اكتسبها النظام الجزائري في حربه على الإرهاب منذ 11 سبتمبر 2001 والتي كانت في مطلع التسعينيات غائبة ومفقودة، بل الدول الغربية وعلى رأسهم بريطانيا كانت تأوي أبرز المتشددين وممن ينظّرون للذبح والتكفير وسفك دماء الأبرياء في الجزائر. فضلا من كل ذلك أن الاتهامات التي كانت تلاحق الجيش والمؤسسة العسكرية في إطار "من يقتل من؟" أفلست إفلاسا ذريعا لعدة أسباب وأهمها أنها كانت مجرد مناورة أجنبية مجافية للحقيقة للضغط على الجزائر لحسابات أخرى تتعلق بالاقتصاد كصفقات التسليح والنفط...إلخ. وحتى منها التاريخية التي تتعلق بفرنسا تحديدا ضمن المطالب المعروفة التي ترفعها الجزائر من أجل الاعتذار والتعويض عن الماضي الإستعماري. وأيضا حاول من خلالها الإنقاذيون تبييض وجه الحزب المحظور. أما الجماعات المسلحة التي وصلت لطريق مسدود بسبب الدموية التي لحقت الشعب والمدنيين، سعت للبقاء والاستمرار بتبرئة نفسها من جرائم يعرف الكل أنها هي التي اقترفتها مثل مجازر الرايس وبن طلحة وبني مسوس وغليزان وتبحيرين... إلخ، وبين هذا وذاك نجد أن أبرز من جعلوا كحصان طروادة من أجل الترويج لها، هم من الضباط السابقين وحتى المسبوقين قضائيا الذين لا يعتد بشهاداتهم لأنها جاءت في إطار رغبة الحصول على اللجوء السياسي، وكانت مجرد حبر على ورق، ولم يتم تقديم دليل واحد يثبت تلك الإدعاءات. ويكفي أنه رغم الدماء التي سالت ورغم ما قامت به المنظمات الحقوقية التي أدانت الجزائر بناء على تلك الشهادات المفبركة في أغلبها، لم يفلح أي طرف بفتح قضية لدى العدالة الدولية. وهذا طبعا زاد في قوة الجانب الجزائري الذي كانت "غزوتي نيويورك وواشنطن" هي المفصل الذي به أحس العالم بخطر اكتوت به الجزائر على مدار عشرية كاملة ومن دون أدنى دعم حتى من الدول العربية نفسها، بل أن الدول الغربية تحولت إلى معابر للسلاح وجمع التبرعات والنشريات التحريضية. فما تسمى بالقاعدة جاءت في ظرف يتمتع فيه النظام الجزائري بشرعية دولية ودعم منقطع النظير، لاجتثاث هذه الجماعة التي كما قلنا بولغ في شأنها ولكن رغم كل ذلك قد تفجرت بعد نفخ تجاوز الحدود المنطقية. فالجماعة السلفية أدرجتها أمريكا كمنظمة إرهابية وأدرجت أسماء تنشط تحت لوائها ضمن قائمة أممية، وروسيا بدورها عزمت على اعتبار "القاعدة" منظمة إرهابية وهو ما أعلنت عنه مارينا غريدنيفا الناطقة الرسمية باسم النيابة العامة الروسية في نوفمبر 2008 فضلا عن التوقيفات التي طالت ممّن كانوا يشكلون مدرسة دموية تدعم الإرهاب في الجزائر من الخارج. خامسا: بلا شك أن استعمال وسائل الإعلام في الحرب على الجماعات المسلحة في الجزائر قد حقق مبتغاه كثيرا، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن الاعتداءات التي قامت بها هذه الجماعات ضد وسائل الإعلام والصحفيين خلال العشرية الدموية قد كانت الفتيل الذي زاد في حدّة الحرب الإعلامية. فقد حققت وبمختلف الوسائل بينها المشروع وحتى المشتبه فيه في كشف خفايا وأسرار كثيرة وصنعت حربا نفسيا كانت من بين الأسباب الرئيسية في انهيار المشروع المسلح في الجزائر. ولقد حدثني بعض الأمراء ممن كان لهم مركز القيادة أثناء التسعينيات أن من أبرز أخطائهم هو محاربتهم لوسائل الإعلام، حيث أكد لي "علالو. ح" الذي كان مشرفا على حيز كبير من النشاط الإلكتروني للجماعة السلفية وكان مقربا من حسان حطاب أن المقاتلين كانوا يلقنون نظرية مفادها أن أعداءهم هم ثلاث: السلطة بكل مؤسساتها والأحزاب بمختلف مواقعهم ووسائل الإعلام بكامل أنواعها وخطها التحريري، وهذا الذي ردده حتى قادة "الفيس" في تجمعات شعبية سنة 1990 ليضيف أن قيادة السلفية كانت دوما تطالبهم بالسعي لفتح خط إعلامي يبلّغ رؤيتهم وأنباءهم وإن لم يحدث ذلك سيعجل بنهايتهم. أما شامة محمد المكنى بالقعقعاع محكوم عليه بالمؤبد وشارك في مجازر عديدة وهو الذي كان الذراع الأيمن لعنتر زوابري على مدار عشرية كاملة، فقد جزم لي أن الإعلام والصحف لعبت دورها في تفتيت بيت "الجيا" بل إلى إشعال حرب داخلية بين مختلف التيارات المسلحة. ليضيف عوار محمد والذي التحق بمعاقل "الجيا" وعمره 16 سنة بغابة الزاوش بأولاد يعيش وتحت إمارة عنتر زوابري وبعدها نشط مع كالي رشيد المكنى ابوتراب وشارك في مجازر مثل الشفة وحماليت ودوارين علي... إلخ، فقد أكد لي أنه كان ممنوعا عليهم الإطلاع على الصحف وعندما تصل الجريدة لمعاقلهم يطلع عليها أمير مكلف بذلك، حيث يحذف ما يمنع الإطلاع عليه كما يطمس الصور ولا يترك لهم سوى الكلمات المتقاطعة والسهمية وبعض أخبار الفساد والرشوة ومعاناة المواطنين والمظاهرات والإضرابات. ولو يجد أحدهم قصاصة جريدة حملتها الرياح إلى الشعاب وتجرأ على أخذها وقرائتها لأنه سيتعرض للتعزير والعقوبات. وطبعا في ظل ترسانة رهيبة من الصحف والقنوات الفضائية لا تملك "القاعدة" إلا المنتديات ومواقع أنترنيت يتم تدميرها وقرصنتها في أغلب الأحيان. ففي حال الحرب بين جيشين متكافئين عسكريا ينتصر الأقوى إعلاميا، فكيف سيكون الحال في جماعات متناثرة هنا وهناك يجمعها شعار عبارة عن "ماركة" مسجلة، ولا يمكن أن يصلوا للرأي العام الجزائري أو الدولي إلا وفق ما تريده السلطة. فعامل الإعلام مهم وخطير وهو الذي ساعد في القضاء على الجماعات المسلحة وهو الذي يساعد اليوم في تفتيت ما تبقى من الخلايا ويعزلها عن العالم الخارجي، وهذا الذي سيقطع دابر الاستمرار مهما كانت هذه الجماعات قادرة على تعدي الحصار. وإن كانت القاعدة لا تملك إلا هيئة إعلامية يتزعمها صلاح قاسمي الذي ليس له تجربه في علوم الإعلام، وحتى ما يسمى بمؤسسة الأندلس لا تخرج أبدا عن إطار تلك الهيئة التي أخفقت، والتسمية تدخل في إطار المسارعة نحو إبراز إنتمائها للقاعدة الأم التي تملك "سحاب" وتنتج من خلالها أفلامها وأشرطتها، كما يفعلون مع رقم 11 في عملياتهم الإنتحارية لما له من دلالات. وتشير مصادر أمنية أن هذه الهيئة تتكون من تقني في الإعلام الآلي يتقن فن التركيب صور الفيديو والفوتوشوب وعناصر أخرى في الخارج تتولى نشرها في المنتديات المحسوبة عليها. 3- أسباب دولية توجد عدة أسباب دولية هي بدورها تساهم مساهمة فعالة في تسريع النهاية، ومن بينها نذكر على سبيل المثال لا الحصر وباختصار جد شديد: أولا: الحرب الشاملة والعالمية على الإرهاب والتي انطلقت فعليا منذ 11 سبتمبر 2001، وإضافة إلى ما ذكرناه سابقا فقد شهدت تطورات هذه الحرب بعض التحول الذي طبع خطاب الإدارة الأمريكية نحو العالم الإسلامي منذ وصول أوباما إلى البيت الأبيض، وإن كان لحد اللحظة لم تتم إجراءات ملموسة إلا أن الأمور تتجه نحو تصورات أخرى تبتعد بعض الشيء عن خيارات المحافظين ونستبعد خضوعها لغير الحل الأمني من أجل اجتثاث ما تسميه بالإرهاب والذي يشمل حتى المقاومات المشروعة في العراق وفلسطين. أدى هذا التنسيق والضغط الأمريكي إلى انحصار الظاهرة الاسلاموية في الغرب والتضييق على العمل الخيري والنشاط لبعض رؤوسه وخاصة في لندن، حيث جرى اعتقال أبرز المنظرين كأبي قتادة الذي هو من أفتى بجواز المجازر الجماعية في حق المدنيين الجزائريين وصار يعرف بمفتي "الجيا" وكذلك إبعاد أئمة عرف عنهم التحريض والخطابات التي تحرض على الكراهية والتعصب والتطرف. كما نلمس التعاون الأمني الوثيق بين الدول في تحرك الأفراد والأموال والنشاط الجمعوي وخاصة في الساحل الإفريقي، حيث نذكر مثلا أن الرئيس المالي أمادو توري قد صرح بعد نهاية مؤتمر الاتحاد الإفريقي في سرت أن الجزائر ومالي وليبيا عازمة على توحيد جهودها العسكرية واللوجستية لاقتلاع جذور الإرهاب في المغرب وإرساء الأمن في منطقة الساحل. هذا التعاون الاستخباري والأمني والقضائي أدى إلى تمتين عرى القوانين إلى حد العقوبات الدولية ضد من يشتبه فيهم دعم الجماعات بالإشادة والتجنيد والتبرع والتموين ولو كان على سبيل دفع فدية لتحرير رهائن، وآخر ما شرعته الأممالمتحدة في إطار ذلك نجد القرار 1904 الذي شرّع في 17ديسمبر 2009 والمتعلق بالتهديدات التي تستهدف السلم والأمن العالميين من طرف الأفعال الإرهابية، ويدين القرار دفع الفديات من أجل تحرير المختطفين والرهائن الذي صار الخيار المستعمل من قبل "القاعدة" في الساحل الإفريقي وحتى الصحراء الجزائرية من أجل كسب الأموال في ظل شحّ التبرعات التي كانت متوفرة خلال التسعينيات بكثافة رهيبة، ولا تزال أموال "الجيا" المقدرة بالملايير، اللغز الذي يثير الجدل الأمني ويخضع لتحقيقات سرية. والقرار المشار إليه جاء ذلك كتتويج للائحة 1373 الصادرة في 2001 والمتعلقة بتموين الإرهاب، وقبلها اللائحة 1267 الصادرة في 1999 والمتعلقة بتمويل نشاطات التنظيمات الإرهابية.