أواصل الاستماع إلى حديث الدكتور فاروق الباز مدير عام أبحاث الفضاء في جامعة بوسطن حول قضايانا المصيرية، وأنوب عنكم في تقديم ملخصا لأفكاره بشكل تقريبي، أحاول من خلاله تقديم مضامين لفكره قد تساعدنا في ولوج عوالم الظلام التي تحيط بنا، وكم تمنيت أن يطول الحديث أكثر لكن عوامل جمّة حالت دون ذلك. * ينتقل بنا الباز في هذه الحلقة إلى التغيّر الحاصل في الدول العربية، لجهة ولادة مناطق جديدة يعوّل عليها ثقافيا وعلميا قد ترث حواضر ومراكز كانت إلى وقت قريب مواقع حضارية ننظر إليها ببصيرة طالب العلم الذي له نهم لا يعرف الشبع، ويراقبنا العالم من خلالها، خصوصا بعد احتلال العراق وتراجع دور مصر، بحيث لم تعد في نظر بعض عناصر النخبة من أبنائها مقنعة لأهلها، وبعد أن ترك المثقفون الجزائريون حربهم الحقيقية ولجأوا لأخرى مزيّفة واهية ولاهية.. المناطق الجديدة على الساحة العربية هي الدول الخليجية، وبالطبع هذا ليس مقبولا من فريقين، أولها: القابع في مكانه بالرغم من تغيّر العالم، حتى إذا ما كلمته عن الحاضر ذهب بك إلى الماضي. وثانيهما: الذي يدرك حقيقة ما يحدث ويصر على الرفض، خوفا من هجوم الآخرين. * بالنسبة لي فقد كنت أعتقد أن جلّ النشاط الخليجي، بالرغم من صدقيته وجديته وأهميته، تغلب عليه أجواء الاحتفالية والطابع الفلكلوري، حيث الغرام الظاهر والمنظم لما يلقى من مديح أو قبول لدى الآخر الخارجي، خاصة الدول الغربية، غير أن الدكتور الباز لفت نظري إلى مسألة غاية في الأهمية، حين سألته: هل ما تحقق في دول الخليج العربي، ومنها الإمارات: مجرد استعراض لإنجاز خارجي تم تحقيقه بقوة المال، أم أن هناك نهضة حقيقية في المنطقة؟ * أجابني مبتسما: ما تراه يوميا من إنجازات في الدول الخليجية ومنها الدخول في عالم المستقبل، هو حقيقة وليس وهما.. نور يسطع في دنيا العرب من هذه المنطقة، وسنرى تأثيره في المستقبل المنظور. بدا لي الأمر مبالغا فيه، فسألته: كيف لنا أن نعوّل عليها، وهي باستثناء قوتها المادية لا تملك مصادر أخرى للقوة؟ * يجيبني الدكتور الباز بصبر العالم: القوة المادية ليست أمرا يمكن الاستهانة به، وكل المشاريع بما فيها العلمية بحاجة إلى المال، ثم أن الدول الخليجية، وخصوصا الإمارات وقطر دخلت عصر المعرفة، وكلنا نشاهد تطبيقاته العملية من الحكومة الإلكترونية إلى الطاقة المتجددة، وبخصوص هذه الأخيرة فقد تمكنت الإمارات بفضل دبلوماسيتها وقرارها السياسي الرشيد وإعدادها مدينة كاملة (مصدر) بمواصفات صديقة للبيئة أن تحقق إنجازا لها وللعرب ولدول الجنوب وذلك باستضافة مقر الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (أرينا)، وسيتبع هذا بإجراء أبحاث علمية في مجال طاقة المستقبل، والدخول مع العالم في نقاش حقيقي حول الطاقة، ما يعني دخول الدول الخليجية في المستقبل، في حين لاتزال معظم الدول العربية الأخرى، بما فيها مصر، تتحدث بلغة الماضي. * لكن هل تطوّر أقليم واحد من أقاليم الأمة العربية سيساعد على تطور المناطق الأخرى؟.. طبقا للمشاهد الحياتية الإجابة ستكون بأنه لا يمكن، خصوصا وأن العالم يعمل ضمن التكلات، لكن الدكتور الباز من موقع العالم المتبصر، يرى عكس ذلك تماما، حيث يذهب إلى القول: »إن الدول العربية ليست جميعها في حركة واحدة، فعظمها يحترق الآن، ومنها من بدأت تصطلي بنار المعرفة، وأخرى وهي الأهم بدأت تتلمس طريق النور، صحيح أنها لاتزال في بداية الطريق، لكنها، بلا ريب، تتجه نحو النور، وهي التي تضع الدول العربية الأخرى أمام مساءلة الحضارة والمدنية، ولا يمكن للعواصم الثقافية العربية الأخرى وخصوصا القاهرة إلا أن تتأثر بنورها، والدول المعاصرة يعظم دورها أو تصغر قيمتها من مدى اكتسابها للمعرفة وارتيادها مجال البحث العلمي واعتمادها على الفكر، وهذا تجلياته واضحة، فإمارة دبي مثلا، زارها السنة الماضية ما يفوق زوّار مصر بثلاث مرات، والأمر هنا يتعلق باكتساب المعرفة، وتلك سمة الدول المتقدمة.. مهما يكن، فإنه على العرب أن يقتبسوا من دول الخليج في سعيها لاكتساب المعرفة. * عمليا، لو كان مصدر هذا الكلام غير العالم الفاضل فاروق الباز لقلنا إنة لا يعدو أن يكون مجاملة للدول الخليجية من باحث تدعوه ضيفا، فيقابل الكرم بكرم، لكن لأنه صادر من الباز، فعلينا أن نتأمله مليا، خصوصا بعد أن استمعت إليه وهو يوضح الدور المستقبلي لحركة البحث والثقافة والتعليم في دولنا العربية، من خلال إجراء مقارنة بين بعض الجامعات العربية، فقد قال: لقد هاجمنا قطر حين أنشأت فروعا من الجامعات الكبرى فيها وللعلم فقد خصصت مؤخرا 2,8 بالمئة من ميزانيتها للبحث العلمي، لكنها اليوم أفضل في إنجازها البحثي من الجامعات المصرية، لذا أؤكد مرة أخرى أن الحل في التعليم النوعي، ولنا في تجارب الدول التي كانت معنا في نفس الوضع في الخمسينيات وتجاوزتنا الآن: ماليزيا، كوريا، اليابان خير مثال، إذ تمكّنت في فترة لم تتجاوز أحد عشر عاما من إحداث طفرة في مجال العلم والمعرفة. وبمناسبة الحديث عن التعليم والبحث العلمي وجب التوضيح بأن ذلك لا علاقة له بنظام الحكم ، فالصين ديكتاتورية وهي تنافس الدول الغربية الآن في مجالات المعرفة. ولا علاقة له بالوضع الاقتصادي أيضا، فالهند فقيرة وهي الآن الأولى في مجال البرمجيات والكومبيوتر، وليس له علاقة بالاختلاف المذهبي أو الطائفي، أو اللغوي وإنما له علاقة بالحكم الراشد، المحب للعلم. * بعد أن أنهى الدكتور الباز حديثه، قلت له إن الشعوب العربية حين تضيق عليها أوطانها بما رحُبت وحين ترى الفتنة تشتعل، تحتمي بالعلماء، خير مثال على ذلك رسالة وصلتني من قارئ مصري أيام الفتنة الرياضية بين مصر والجزائر لا أعادها الله وسعدت بها كثيرا، إذ احتوت الرسالة على صور لأدباء مصر وعلمائها، أمثال الأديب نجيب محفوظ والدكتور أحمد زويل وسيادتكم وغيركم من علماء، متسائلا، هؤلاء هم المصريون، فمن أنتم؟ يقصد الجزائريين؟.. لقد سعدت بتلك الرسالة لأنها رقّت أسلوب الحوار، وإن كنت قد حزنت لأنه لا يعرف علماء الجزائر ومفكريها وتلك خطيئتنا في الجزائر، وأضفت هل تعرف الدكتور إلياس زرهوني؟ أجابني: أعرف الدكتور الياس زرهوني الجزائري وأعرف الدكتور أحمد زويل المصري، اللذين عيّنتهما وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون مؤخرارفقة مواطنها الأمريكي البروفيسور بريس ألبيرتس، كمستشارين للعلوم والتقنية، وجاء تعيين الخبراء الثلاثة في إطار »المبادرة الأمريكية لدعم العلوم والتقنية في العالم الإسلامي«. * صمت الدكتور الباز لحظة، ثم أضاف: تلك حال علماء الجزائر ومصر في الخارج، بعيدا عن أجواء السفاهة والخيبة والضغينة في الداخل.. هل عرفتم لماذا هاجرنا إلى الخارج، وغدونا زرعا، أوتي أكله خارج أوطاننا الأصلية؟! * سؤال الدكتور الباز يتطلب إجابة نشرك فيها جميع الأجيال الراهنة، وإلى أن يتم ذلك لنذّكر مرة أخرى بأن البروفيسور إلياسزرهوني شغل منصب المدير العام لمعاهد الصحة في الولاياتالمتحدة في الفترة الممتدة بين 2002 و2008، حيث كان يشرف على عمل 26 ألف باحث، بميزانية سنوية تقدر ب30 مليار دولار. * وهو يشغل حاليا منصب مستشار رئيسي في كلية الطب بجامعة جون هوبكينس. * واشتهر إلياس زرهوني، الحاصل على دبلوم من جامعة الجزائر، قبل أن يستقر بكلية الطب بجامعة جون هوبكينس بالولاياتالمتحدة، بكونه طوّر الطب الحيوي، وأدخل التكنولوجيا الحديثة في عمليات الجراحة المرتبطة بهذا الطب. * أما الدكتور المصري أحمد زويل، خريج جامعة الاسكندرية للكيمياء، فهو بروفيسور في الكيمياء والفيزياء بالمعهد التكنولوجي بكاليفورنيا، حيث كان يدير مركز البيولوجيا الفيزيائية للعلوم والتقنية السريعة جدا، وحاصل على جائزة نوبل للكيمياء عام 1999، والأكثر من هذا كله فخور بعروبته ومحب لصوت وغناء وزمن أم كلثوم.