اتفقنا أم لم نتفق مع الحكومة الحالية، ينبغي أن نقول إن عقد المعارضة بأطياف متعددة لندوة وطنية في الجزائر يعد في واقع الأمر خطوة متقدمة في مجال الممارسة الديمقراطية، ينبغي التنويه بها والتأسيس عليها للانطلاق في إصلاحات حقيقية تمس جوهر المشكلات التي تعرفها البلاد، وتساهم في توجيه الإصلاحات نحو المسار الصحيح بعيدا عن كل ديماغوجية أو حسابات ضيقة. اعتادت المعارضات في البلاد لعربية أن تعيش في الخارج، وأن تناضل في الخارج، وأحيانا أن تقبل التمويل والتوجيه من الخارج بسبب الممارسات غير الطبيعية التي تقوم بها الحكومات تجاهها من منع وتضييق وسجن... الخ. وقد عرفت بلادنا هذه الحال في تسعينيات القرن الماضي عندما لم يكن فضاء الحرية متاحا لأي معارضة حقيقية. ولم يتم السماع إلى تلك النتائج التي خرجت بها في سانت إجيديو أو غيرها. وكان من نتيجتها أن استمرت الأزمة لسنوات ومازلنا نعيش آثارها إلى اليوم. ولم تتمكن أي من البلاد العربية من إيجاد فضاءات حقيقية للمعارضة تقدم فيها آراءها بطريقة موضوعية خدمة للمصالح العليا في البلاد، ومن غير تهديد بالسلاح. فهي باستمرار إما تحمل السلاح، أو تهدد بحمل السلاح، أو تستند على السلاح، أو هي مقبورة في السجون ممنوعة من إبداء الرأي، أو منفية خارج الأوطان مضطرة إلى الارتماء في أحضان هذا البلد أو ذاك. نادرا ما استطاعت معارضة أن تفلت من قبضة هذا السيناريو، ومازلنا نُتابع إلى حد اليوم، بألم وحزن كبيرين، ما يعرفه أشقاؤنا في المشرق جراء انقطاع حبل التواصل بين القوى الحاكمة والمعارضة وجراء التدخلات الدولية في الطرفين لتعفين الوضع أكثر ولمنع الوصول إلى مخارج مشرفة للأطراف المتصارعة وبأقل التكاليف.. (نموذج ما يجري في سورية والعراق ومصر وليبيا واليمن... وبدرجات أقل ببلدان عربية أخرى كالسودان ولبنان والبحرين)... هذا السيناريو -الأكثر كارثية وخطورة- يبدو أننا نسير باتجاه تجنبه اليوم، بعد الدرس الذي عرفناه خلال التسعينيات، والحكمة والمصلحة الوطنية تقتضي أن ندفع بوعي وعقلانية إلى تجنبه أكثر، وأن نعتبر أن لقاء المعارضة، أول أمس، إنما هو بداية الطريق نحو تحول ديمقراطي حقيقي في بلادنا. إن جلوس أطياف متعددة من المعارضة حول طاولة واحدة يعد في حد ذاته انتصارا للمعارضة، وفيه خدمة كبرى للبلاد. كما أن طرح مشروع أرضية للنقاش يعد سلوكا عقلانيا من قبل الجميع للوصول إلى حلول توافقية للمشكلات المطروحة، ينبغي للحكومة ألا تكابر وتأخذها بعين الاعتبار.. حقيقة لقد تضمن مشروع الأرضية الكثير من الأفكار القابلة للنقاش، وأحيانا حتى للرفض، ولكن ذلك يعد في ذاته مقبولا من حيث إنه يفتح المجال لمساهمة الجميع في تصور الحلول المستقبلية لبلادنا. ولعل هذا هو المطلوب اليوم منا جميعا: أن نساهم في بلورة تصور مستقبلي ناضج لبلادنا، يُفترض أن نكون سعداء إن تبنته الحكومة وشرعت في تطبيقه على نفسها، ذلك أن المسألة ينبغي ألا ترتبط بصفة من يقوم بالعمل، هل الحكومة أم المعارضة؟ إنما بنوعية العمل الذي ينبغي أن نقوم به وبنوعية الإجراءات التي ينبغي أن تتخذ وبالأهداف التي يمكن أن تتحقق، وبالنتائج التي سيجنيها المواطن من كل هذا على صعيد حياته اليومية، إذا كنا بالفعل نضع المواطن هو منطلق ومركز ونهاية كل نشاط نقوم به أو اقتراح نقدمه. وقد توقفتُ عند قراءة مشروع الأرضية عند ما اعتبره خللا هيكليا ينبغي أن يُصحح أو يُناقش. والذي اعتبره خللا مافتئت تقع فيه المعارضة والحكومة معا ومنذ عقود من الزمن حتى كاد يصبح ممارسة لاإرادية نقوم بها ولا نكتشف خطأها رغم تكرار ذلك عدة مرات. يتمثل الأمر في أن الحلول التي يتم تقديمها، إلى حد الآن، بما في ذلك التي قدمتها الحكومة، لا تتمحور حول تغيير الرؤية أو صياغة رؤية مستقبلية لبلادنا إنما حول تغيير رأس السلطة أو رأس الحكومة في بلادنا، فالأرضية مثلا تتحدث عن "تشكيل حكومة انتقال ديمقراطي توافقية تسهر على تجسيد الانتقال الديمقراطي، وتتولى مهام إدارة الشؤون العادية وإرساء السلم الاجتماعي"، ثم "فتح نقاش مجتمعي واسع وعميق يهدف إلى البحث عن آليات اجتثاث الآفات المهددة للمجتمع كالفساد واللاعقاب" (مشروع الأرضية)، أي أنها تقدم التغيير الذي سيتم في مستوى الأشخاص على التغيير في مستوى الرؤية، في حين إن المنهجية العلمية تقتضي أن يحدث العكس، ذلك أن تمكننا من تغيير أشخاص بأشخاص، حتى ولو كانوا من أفضل ما لدى المعارضة، من غير الاتفاق على رؤية مستقبلية لبلادنا في مختلف القطاعات لن يمكن هؤلاء من القيام بأي عمل هيكلي يُغيّر جوهر الأمور، بل قد يؤدي بنا الأمر إلى صراعات جديدة وهذه المرة ستكون بين عدة أطراف تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه. صحيح، لقد تضمنت البرامج السياسية، وبرامج المرشحين للرئاسيات السابقة مثلا الكثير من العناصر المشكلة للرؤية في مجالات التربية والصحة والمحروقات والسكن والنقل والعمل والضمان الاجتماعي... الخ، ولكنها في الغالب إما متضاربة أو مبنية على تفكير رغبوي غير حقيقي، ونادرا ما كانت مؤسسة على منهجية علمية حقيقية لا تستهين بأي اقتراح من الاقتراحات بما في ذلك تلك التي تقدمها الحكومة. وعليه، فإننا لا يمكن أن نتوقف عند تثمين هذا الحدث التاريخي الذي وقع في بلادنا، أول أمس، والمتمثل في اجتماع قوي للمعارضة داخل الوطن، إنما علينا أن نقطف منه شعاع الأمل نحو المستقبل، وأن نقوم بترشيده نحو الأفضل ليُشكل، إلى جانب بدائل أخرى ستقدمها قوى معارضة أخرى أو شخصيات وطنية مستقلة، الآلية الجماعية التي ستمكننا من أن نتخطى أسلوب عمل الدول غير المستقرة مؤسساتيا إلى أسلوب الدول الأكثر استقرارا. وعندما نختار هذه المنهجية فبدون شك سيُصبح البحث عن تحديد الطرق التي ستوصلنا إلى بر الأمان في مختلف القطاعات أولى من البحث عمن يقودنا عبر هذه الطرق، ذلك أن صياغة المسارات التي سننتقل عبرها خلال العشرين سنة القادمة مثلا وتحديد الأهداف الاستراتيجية التي ينبغي أن نحققها سيكون هو الذي يحدد طبيعة الأشخاص الذين سيقودوننا وليس العكس. إن هذه المنهجية هي التي ستمكننا بدرجة كبيرة من الخروج من حالة هيمنة الأشخاص على العمل السياسي وطبعه بطابعهم، إلى حالة تحول الأشخاص إلى خدمة مشروع توافقي واضح الرؤية والمعالم منبثق عن نخبة العلماء والمفكرين المرتبطين عضويا بآلام وأحلام الناس والذين يعيشون بينهم في السراء والضراء.. هذه المنهجية هي التي ستجعل لقاء المعارضة ليس لقاء زعامات إنما لقاء متنافسين ببرامج على خدمة الشعب الجزائري لا يترددون في الأخذ بكل فكرة لصالحه ولو كانت نابعة من الحكومة ذاتها التي يعارضونها وذلك هو التوافق في معناه الحقيقي والعميق، وتلك هي أعلى درجات التعبير عن المسؤولية والحرية في التفكير والعمل.