نعيش اليوم إشارات حاملة للمستقبل تكاد تنطق بنفسها وتطلب التعامل معها قبل أن تستفحل في كافة القطاعات، من منظومة القيم إلى الأسرة إلى التعليم إلى الأسرة إلى الشباب إلى العمل إلى الصحة إلى الطاقة إلى الأمن الغذائي إلى الإرهاب إلى مستقبل الإقليم الوطني. إلا أن أهم قطاع به، ومن خلاله تتأثر كافة القطاعات، بإمكانه أن يقلبها جميعا رأسا على عقب أو يصححها جميعا ويضعها على الطريق الصحيح هو منظومة الحكم. لا يمكن لأي مستشرف أن يضع تصورات وحلولاً مستقبلية لأي مشكلة من المشكلات القادمة ويمنعها من أن تتحول إلى مشكلة ضاغطة إذا لم يكن يشتغل ضمن منظومة حكم واضحة المعالم، ذات أداء وظيفي محدد. يستحيل أن نستبق مشكلات من أي نوع كان إذا لم تكن عملية الاستباق تجري ضمن منظومة حكم واضحة الأداء السياسي، ذلك أن كل تصور للحل يُطرح على المدى البعيد سيكون بلا معنى إذا لم يتم ضمن منظومة حكم متماسكة تعمل بمنهجية واضحة وغير معرضة للهزات أو الاضطرابات الآنية فما بالك بالتغييرات المرتبطة بنزوات الأشخاص وصراعات الزمر. مثل هذه الحال هي النقيض التام للاستشراف بما فيه من استباق واستحداث للفعل. ولدينا أكثر من مثال يؤكد ذلك من تاريخنا القريب، في منتصف السبعينيات كان الرئيس الراحل هواري بومدين بصدد صوغ رؤية مستقبلية للجزائر بعد ربع قرن أي في حدود سنة 2000، وكلف لذلك فريقاً من الخبراء ومنهم من زار نماذج محتملة للتطور يمكن الاستفادة منها ومن بينها كوريا الجنوبية لنلاحظ كيف أصبحت اليوم وتم إعداد مشروع الدراسة الشاملة والقطاعية بتمويل من شركة سوناطراك، وسُلّمت نُسخ أولى منها لرئاسة الجمهورية، وكان يُفترض أن تُستكمل بعد حين... ولم يحدث ذلك، لأن رئيس الجمهورية مرض ثم توفي بعدها بقليل، وتبدل اتجاه النظام السياسي بعده، ولم يعد كما كان، ولم يعد لذلك الاستشراف جدوى. لقد تم تغيير الأولويات، وتبدّلت الوجهة، وحتى القناعة بأننا يمكن أن نشرع في بناء جزائر سنة 2000... وقد كنا في منتصف السبعينيات. وحدث ما حدث من تحوّلات في بلادنا مع بداية التسعينيات على المستوى السياسي، وتم تكليف فريق آخر من الخبراء في ظل النظام الجديد للقيام بدراسة استشرافية للخمسة عشر سنة القادمة الجزائر 2005 وكان ذلك في بداية التسعينيات وهذه المرة تحت إشراف فريق جديد من الخبراء الجزائريين تحت إشراف المعهد الوطني للدراسات الإستراتيجية الشاملة. واغتيلت الدراسة باغتيال أحد أهم إطاراتها الأستاذ جيلالي اليابس رحمه الله، ونُسب ذلك للإرهاب "الأعمى" الذي للمفارقة يُصبح بصيرا ومتبصّرا عندما يتعلق الأمر بالعلم والعلماء... وتسبّب الاضطراب الحاصل في النظام السياسي في تلك الفترة في جعل محاولة صوغ رؤية مستقبلية للبلاد يتحول إلى ما يُشبه المستحيلات. واستمر تنفيذ السياسات القطاعية المختلفة من غير أي رؤية مستقبلية، بل قل من غير أي سياسات عامة واضحة المعالم، إذا استثنينا تلك المحاولة الجادة التي بادر بها رئيس الحكومة الأسبق مولود حمروش، والتي تم إجهاضها في المهد.. ويعرف الجميع اليوم أن أغلب القرارات التي تم به تسيير البلاد خلال العقدين الماضيين كانت في كل مرة تتم على عجل وأحيانا تُسمى كذلك (برامج استعجالية) تبرز فجأة ثم تنطفئ بعد حين (الدعم الفلاحي، دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، إصلاح التعليم، الصحة، عدل 01، إصلاح العدالة ...الخ)، برامج غير مرتبطة برؤية متكاملة مصاغة باستقلالية ومُلزمة للجميع. وهكذا ما نلبث أن نجد إمكانيات مالية ضخمة تُصرف بنتائج غير متناسبة معها نتيجة هُلامية الدور الذي لعبته منظومة الحكم ومن يمثلها في تعالمها مع هذه الإصلاحات، وفي المعنى الذي كانوا يعطونه لها. أي أن الإشكالات الواقعة داخل هذه المنظومة كانت في كل مرة تمنع أي محاولة للقيام بأعمال شاملة أو قطاعية بعيدة المدى غير مرتبطة باستمرارية أشخاص بعينهم في الحكم، وفي كل مرة كان يحدث الانقطاع والتراجع عن بعض القرارات وتعديل التعديل بما في ذلك على تسمية الوزارات وهياكلها والغاية منها، ومازال الأمر يحدث إلى اليوم في أعلى مستويات اتخاذ القرار، (آخر تعديل حكومي) مما يؤكد غياب الرؤية وغياب من لديه القدرة على صوغها من جديد. ولعل هذا ما يجعلنا نقول إن أصل أي إصلاح هو في منظومة الحكم.. قد يقوم الأفراد بأدوار ذات أهمية بالغة لفترة من الفترات، وقد يقومون بتحسين حال قطاع من القطاعات، ولكنهم في آخر المطاف سينهزمون أمام منظومة حكم ليست لديها رؤية مستقبلية واضحة مصاغة من خلال مشاركة الجميع. لذا فإننا نبقى نصر أن مشكلتنا بالأساس تكمن في هذا المستوى. من غير الممكن أن نقوم بأي إصلاحات هيكلية أو غير هيكلية، قطاعية أو شاملة، إذا لم نعد صياغة منظومة الحكم وفق قواعد الشرعية والشفافية والتمثيل الحقيقي لكافة الشرائح الاجتماعية من خلال انتخابات غير مزيفة تمكّن ممثلين حقيقيين للشعب من حلّ مشكلة السلطة، وبعدها لن يبقى الإشكال مطروحا؛ ذلك أن سلطة شرعية، ومنظومة حكم ممثلة حقيقية لجميع شرائح المجتمع لا يمكنها إلا أن تبادر بصوغ رؤيتها المستقبلية قبل أي أمر آخر، هذا إذ لم تكن تمتلكها بالأساس، وهو ما سيساهم بحق نقلنا من حال العمل وفق قواعد الاستعجال إلى العمل وفق قواعد التبصر والاستشراف، الحلم الذي نتطلع أن يتحقق ذات يوم.