أعادت قضية الشبان الجزائريين المحتجزين في مالطا هذه الأيام، مسؤولية الدولة الجزائرية في حماية رعاياها في الخارج إلى الواجهة. قضية قديمة متجددة، لكنها لم تجد طريقها إلى الحل. أين يكمن الخلل إذن؟ هل في أن الرعايا الجزائريين "لا يسافرون جيدا" كما يقول المثل؟ أم إنهم ضحية صور نمطية سلبية موروثة من الماضي، عجزت جهود الدولة عن القضاء عليها؟ وماذا تحقق من ورشة استعادة سمعة الدولة في الخارج التي أطلقها الرئيس بوتفليقة؟ هذه الأسئلة وأخرى يجيب عنها الملف السياسي لهذا الخميس . .
مسلسل لا تنتهي فصوله.. الصور الموروثة سوّدت سمعة الجزائريين بالخارج عانى الجزائريون منذ مطلع التسعينات من سوء المعاملة في الخارج، فكانوا خلال العشرية الحمراء عرضةً لأبشع التضييقات أينما حلّوا أو ارتحلوا، إذ كان الجزائري في نظر الدول الأجنبية "إرهابيّا" حتى يثبت العكس! بقدوم الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة ربيع 1999 إلى سدة الحكم، قطع الرجل على نفسه عهدا بتحقيق الكرامة للجزائريين، واستعادة مجد البلاد في الخارج، والتي تضررت صورتها كثيرا، وهانت سمعة مواطنيها لدى القريب قبل البعيد، لكن الجزائريين اليوم، وبرغم العودة المسجلة لدولتهم على الصعيد الإقليمي، ما زالوا يكابدون الأمرّين وهم خارج حدودهم، سواء تعلّق الأمر بالتهجير القسري أم الاعتداءات العنصرية أم المعاملات التمييزية، والأدلة أكثر من أن تحصى، بل الأسوأ أن يقبع بعضهم خلف القضبان في قضايا شائكة ومشبوهة، ويبقى سجناء غوانتنامو والعراق خير دليل على ذلك. مسلسل الإهانة لم يتوقف عند المواطنين البسطاء، بل شمل شخصيات من المستوى الأول، على غرار الوزراء والبرلمانيين، وما حادثة الرقابة التي خضع لها مراد مدلسي في واشنطن، ونور الدين بلمداح في لندن سوى عيّنة، عما يلاقيه الجزائريون في عواصم العالم. الغريب في القضية ليس معاناة الجزائريين في الخارج، فذلك قد يحصل مع أي رعية آخر، حينما تداس حقوق الإنسان، لكن المسؤولية الأولى تقع على عاتق دولتهم، لأنهم رمز لسيادتها، وكرامتها من كرامتهم المهدورة! وبهذا الخصوص، ما فتئت خطابات الرسميين تشدد على حماية كرامتنا في الداخل والخارج، لكن الوقائع الكثيرة، تؤكد أن الأقوال لا تسندها الأفعال في الغالب من الأحيان، فالجهاز الدبلوماسي يعاني من البيروقراطية، وتعوزه الفعالية المطلوبة في تحركات ومواقف كهذه! ربمّا تحركت دوائرنا الدبلوماسية في الخارج عبر أكثر من حادثة، لكن "حكمة الصمت" التي تلازمها، قد تحجب جهودها في الذود عن حقوقنا، لتكرّس بذلك شعور مواطنينا ب "عراء الظهر" أمام الأجانب. كما تواجه الجزائر في هذا الاتجاه، وعلى غرار دول أخرى، مشكلة معقدة، تتعلق بمبررات مكافحة الإرهاب الدولي، وفي هذه الحالة تتداخل حقوق الرعايا مع الالتزامات القانونية والسياسية، ما يجعل الكثير من المهاجرين ضحايا لإجراءات تعسفية، سوف يزيد تجاهل الدولة لأوضاعهم الصعبة من وطأة التضييق عليهم. ويبقى منطق القوي مع الضعيف، واحدة من أكبر العقبات التي تحول دون حماية أي دولة لرعاياها، ذلك أن القوانين الدولية تسري على الضعفاء دون سواهم، إذ لا اعتبار للقيم الإنسانية والأعراف الدولية أمام المصالح القومية للكبار، وإذا كان مثل هذا التفسير لا يبرّر تقصير الدبلوماسية في حق أبناء البلد، فإنه يضع الجميع أمام مواجهة الواقع الذي لا تحكمه المجاملات وبروتوكولات حسن العلاقات. وبرأي المراقبين، فإنّ فاقد الشيء لا يعطيه، فالسلطة التي تعجز عن تأمين كرامة مواطنيها في الداخل، ليس في مقدورها حمايتهم في الخارج، وقوّة الدولة أمام الآخرين هي انعكاس لقوتها الوطنية على كافة المستويات!
إهانات واحتجاز خارج القانون وترحيل قسري "استعادة سمعة الدولة" .. وعد لم يتحقق يستمد رعايا الدول في الخارج قيمتهم من قيمة بلدانهم، ويفترض أن يتمتعوا بكافة الحقوق التي تكفلها قوانين الدولة المستضيفة، ما لم يتورطوا في ارتكاب مخالفات تخل بالقانون. غير أن حال الرعايا الجزائريين شكل استثناء، فالكثير منهم تعرّضوا لتجاوزات خارج القانون، مثل الأحكام ذات الخلفية المتعلقة بالصورة النمطية، وهكذا سجن الكثير منهم خارج القانون، وأهينوا ورحلوا قسريا.. لمجرد أنهم جزائريون، والحالات من هذا القبيل كثيرة، بل إن الأمر وصل حتى إلى مسؤولين سامين في الدولة. فهل المسؤول الذي لم يستطع حماية نفسه قادر على حماية رعاياه؟ وهنا تبرز الحادثة المشينة التي تعرّض لها رئيس المجلس الدستوري الحالي، مراد مدلسي، عندما كان وزيرا للخارجية في العام 2010، عند زيارته للولايات المتحدةالأمريكية، حيث تم تفتيشه بطريقة مهينة، وهو الذي كان يحمل جواز سفر دبلوماسي، وكان في مهمة رسمية لملاقاة كاتبة الدولة الأمريكية للشؤون الخارجية، آنذاك، هيلاري كلينتن. ولم تكن حال النائب عن المنطقة الرابعة (أمريكا وأوروبا)، نور الدين بلمداح، أفضل من حال مدلسي، لكن هذه المرة في بريطانيا، في العام 2013، أين تعرض إلى تحقيق وصف ب"المهين"، على مستوى مطار "ستانستيد" بلندن، حيث زار مجموعة من المساجين الجزائريين، وعلى الرغم من استغلال النائب لهذه القضية ورفعها إلى سفير الجزائربلندن، إلا أن الأمر لم يتغير، فالجزائريون لا يزالون يتعرضون لذات الممارسات، التي سبق للرئيس المدير العام لمجمع "الشروق"، أن قاساها أيضا في هذه الدولة. حالات الاعتداء على الرعايا الجزائريين كثيرة، ولم تعد تقتصر على الدول العظمى التي لا تولي اعتبارا لرعايا ينحدرون من دول العالم الثالث، بل إن الأمر وصل هذه الأيام إلى دولة مجهرية مثل مالطا، هذه الجزيرة التي لا تُرى بالعين المجردة في الخريطة، فعلت فعلتها أيضا واحتجزت 14 شابا جزائريا دخلوا هذا البلد في رحلة سياحية بصفة قانونية يوم 23 أفريل الجاري. وما وقع في مالطا، يشكل حلقة في مسلسل لم تنته فصوله، فجل الدول الأوروبية إن لم نقل كلها، تفننت في إهانة الرعايا الجزائريين، لمجرد أنها تحمل عنهم صورا نمطية موروثة عن عشرية التسعينات الحمراء، وهي الممارسات التي لم تتمكن الممثليات الدبلوماسية الجزائرية من محاصرتها، إما بسبب التقصير أو بسبب أمور أخرى لها علاقة بخصوصية قوانين الدولة المستضيفة. وقبل كل ذلك، كان العديد من الجزائريين قد حكم عليهم بالإعدام في العراق ونفذ فيهم الحكم، ولم تنجح محاولات الخارجية في إنقاذهم من حبل المشنقة، بالرغم من أن هذا البلد يعتبر شقيقا وصديقا، وكان قد استفاد قبل نحو سنتين من مسح الديون المترتبة عليه تجاه الجزائر. في القديم قيل: "لا يُضربُ الولدُ إلا إذا عُرف أبوه" هذا المثل الجزائري السائر، يعبّر بصدق عن واقع حال الجزائريين بالخارج، وضعية لا تعكس الجهود التي بذلتها الدولة من أجل استعادة سمعتها في الخارج، بالرغم من أنها كانت إحدى الورشات الثلاث التي أطلقها الرئيس بوتفليقة منذ تقلده سدة الرئاسة في نهاية التسعينات.
القيادي في الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، قدور شويشة "الحكومة لا تدرك أن لها رعايا بالخارج إلا يوم الانتخابات" يتعرض القيادي في الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان في هذا الحوار المقتضب، إلى مظاهر تقصير السلطات بحق رعاياها في الخارج، كما يقدم أرقاما عن عدد الجزائريين الموقوفين في بعض البلدان.
كيف تقيمون أداء السلطات الجزائرية في الدفاع عن الجالية في الخارج؟ الحكومة الجزائرية تدير ظهرها في حل مشاكل الجالية الجزائرية في الخارج، وقد لا أكون مبالغا إذا قلت إن الممثليات الدبلوماسية لا تقوم بمهامها، فهم لا يستقبلون الجالية. ويمكن القول إن الدبلوماسيين غائبون تماما بل هم في حالة سياحة، وهو ما تجلى في إحراق طالبين جزائريين نفسيهما في فرنسا قبل 20 يوما. حالة عدم الاهتمام ولامبالاة تمتد كذلك إلى المعتقلين الجزائريين في الخارج، فقد تجاهلت السلطات الجزائرية هذا الملف تماما. هذه الحقيقة هي التي كانت وراء انخراط الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان في مسعى متابعة ملف الجالية.
هل لديكم أرقام بخصوص عدد الجزائريين الموجودين رهن التوقيف في الخارج؟ وجب التنويه أن السلطات الجزائرية تعدت حدود رفض تقديم تفاصيل للرأي العام عن عدد المعتقلين في الخارج، ونادرا ما تكثف جهودها من أجل إيجاد آليات لهذه الشريحة بما يحفظ سلامة وكرامة وجه الجزائريين والمعتقلين. وفي غياب الإحصاءات الرسمية والتعتيم الكامل، تحاول الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان التعرف على عدد الجزائريين المحتجزين في الخارج على أساس معلومات جزئية عن طريق عمليات عائلات المعتقلين، تقارير المنظمات غير الحكومية والصحف، وتبقى هذه الإحصائيات غير مكتملة وربما تحتاج إلى المزيد من الجهد. فمثلا هناك أكثر من 2018 شخص معتقل في فرنسا، و950 في إسبانيا، 893 في بلجيكا، 886 معتقل في إيطاليا، 300 في بلغاريا، 32 في بريطانيا، 30 في سويسرا، 500 في المغرب، 400 في ليبيا، 70 في تونس، إضافة إلى 55 في سوريا، كان يمكن أن يكون هناك معتقلون في دول أخرى لم نتمكن من حصر عددهم.
ما الذي كان يجب على السلطات القيام به في هذا الإطار ولم تفعل؟ المطلوب على وجه السرعة، قيام السفراء والدبلوماسيين الجزائريين في الخارج بعملهم وواجباتهم، وعدم التصرف على أنهم في رحلات سياحية، تصور أن مطالب الجالية حاليا، يتكفل بها برلماني وحيد فقط، يجب أن تكون القنصليات مفتوحة أمام الجالية، لا أن تفتح في المواعيد الانتخابية فقط، مع ضرورة السعي إلى إعادة جثامين الجزائريين القتلى في الخارج قبل التخلص منها.
رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الأمة، إبراهيم بولحية الإنجازات تتحقق في صمت وبعض الرعايا أساؤوا إلى الجزائر نفى رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الأمة، إبراهيم بولحية، أي تقصير للدولة في حماية الرعايا بالخارج، وأكد أن الحكومة تعمل في صمت ولا تعمد إلى أسلوب التشهير للترويج لإنجازاتها
كثير من الجزائريين يتعرضون للأهانة في الخارج.. أين السلطات المخولة لتدافع عنهم؟ ما يجب تأكيده هو أن الدبلوماسية الجزائرية لم تعتمد يوما على أسلوب التشهير للتعريف بإنجازاتها، على غرار ما تقوم به بعض الدول، فهي تنتهج السياسة الصامتة والفعالة في معالجة القضايا بكل حكمة وموضوعية، والكل يشهد لها بذلك، بدليل أن العديد من الدول انزعجت في الكثير من المرات من موقفها واعتبرته تدخلا في شؤونها الداخلية، وهناك العديد من القضايا الحساسة التي كانت للدبلوماسية فيها مواقف شجاعة وأفضل مثال على ذلك قضية الطفل الجزائري "إسلام" الذي سجن في المغرب..
تتهم الدبلوماسية بالتقصير في حماية الجزائريين بالخارج هل تشاطر هذا القول؟ غريب أمر الذين يتهمون الدبلوماسية الجزائرية بالتقصير، فالدبلوماسيون الجزائريون هم أبناء هذا الوطن وعملوا المستحيل لكي يحافظوا على سمعته في الخارج، خاصة بعد الأزمة التي مرت بها الجزائر أثناء العشرية السوداء، أين تراجعت مكانته وكان الجزائري يعامل بطريقة مهينة، غير أن الدور الكبير للدبلوماسية والجهود التي بذلتها تمكنت في ظرف وجيز من إرجاعها.
لا تتوقف الإهانات ضد الرعايا الجزائريين، وآخرهم ما حدث بمالطا. أين الجهود التي تتحدث عنها؟ إن الحديث عن قيمة البلد تقاس على أساس قوة جبهتها الداخلية، والكل يتفق على ذلك، فالجبهة الداخلية تؤثر بصفة مباشرة على قيمة الدولة داخليا وخارجيا، والحديث عن غياب هيبة الدولة في الخارج لا أساس له والدليل مواقف الجزائر المعروفة والمسموعة، والدور الكبير الذي تلعبه الدبلوماسية في العديد من القضايا.
ما دام الأمر كذلك، لماذا لم تنجح الحكومة في إنقاذ بعض المحكوم عليهم بالإعدام في دول تعتبر شقيقة وصديقة كالعراق مثلا ؟ الكل يتحدث عن تأخر السلطات الجزائرية في التدخل لإنقاذ محكومي الإعدام بالعراق، لكن الكثير منهم لا يعلمون مدى حساسية القضية التي لها علاقة مباشرة بأشخاص ذهبوا إلى العراق ليس من باب السياحة وإنما اتبعوا أفكارا مغلوطة، والدبلوماسية تحركت في هذا الإطار وعملت المستحيل لعودة هؤلاء إلى أرض الوطن، وتحركت بالتنسيق مع كل الأطراف لتحقيق ذلك. لذلك نقول إن هناك قضايا حساسة تحتاج إلى وقت وإلى جهد وعمل دبلوماسي كثيف لأنها تتعلق بأشخاص تورطوا في قضايا حساسة في دولة أخرى لها قوانينها وتحتاج الدبلوماسية إلى بذل جهد كبير، من أجل إنقاذ هؤلاء.