أمام عجز فئات واسعة ممثلة للطبقة السياسية وللنخبة عن تجديد الوطنية وإعطائها قدرة على البقاء حية في قلوب أجيال القرن الحادي والعشرين، انغلقت فئة أخرى على نفسها ضمن بديل محدود يقوم على إمكانية تحزيبها أو توريثها ضمن قوالب جامدة وشعارات مستمدة من نضال واسع لجيل الحركة الوطنية من أبناء القرن العشرين كان عنوانه جبهة التحرير التاريخية كرمز للوطنية، وبذلك بدأت تتّجه نحو قتل الوطنية على المدى البعيد بدل إحيائها في قلوب الملايين. بالفعل، لقد تمكّن جيلٌ كامل من مناضلي الحركة الوطنية خلال النصف الأول من القرن العشرين من الدخول في صراع واضح المعالم مع مغتصب الأرض والوطن تُوّج بتشكيل جبهة أعلنت الثورة على المستعمِر استوعبت جميع الاتجاهات المناهضة له في فعل وطني لم يسبق أن عرفت الجزائر مثيلا له في الشمولية ووضوح الرؤية والتنظيم. وكانت تلك مرحلة تبلور فيها البعد الوطني بجميع مكوّناته وتحققت فيها المهمة الرئيسة من الثورة في استعادة السيادة الوطنية بعد تضحيات جسام، إلا أنها مرحلة لم تلبث أن عرفت أولى الانقسامات بين مناصري "تحزيب" الوطنية والقائلين بتحريرها من كل إطار حزبي باعتبارها مُلكا للجميع. وبدل أن يتم التنافس غداة الاستقلال بين أكثر من اتجاه سياسي حول من يخدم الوطنية أكثر، في ظل تعددية حزبية لمرحلة ما بعد الجبهة، تم إعلان الأحادية الحزبية كخيار لا رجعة فيه وتم إلصاق مصطلح "حزب" بجبهة التحرير الوطنية، لتتحول إلى حزب جبهة التحرير، كحزب وحيد تتم من خلاله ممارسة السلطة والمعارضة في آن واحد، فيما عرف بالديمقراطية المركزية آنذاك. واعتبر أنصار عدم تحزيب الجبهة، من المعارضة غير المرغوب فيها بل والتي يجب محاربتها. وهكذا تم اعتقال ثم إبعاد محمد بوضياف كمؤسس لحزب الثورة الاشتراكية، والشيء ذاته بالنسبة للقائد التاريخي الآخر حسين آيت أحمد، الذي أسس جبهة القوى الاشتراكية ناهيك عن جمعية العلماء المسلمين التي مُنعت من العودة إلى ممارسة السياسة تحت عنوان "جمعية القيم"، والحزب الشيوعي الجزائري الذي حوّل نفسه إلى حزب الطليعة الاشتراكية، فضلا عن الاتجاهات الليبرالية التي لم يكن بمقدورها التعبير عن نفسها في أي شكل من أشكال النضال السياسي باعتبار أن الحقبة تلك كانت حقبة اعتبار الوطنية لصيقة بالخيار الاشتراكي، ولا وطنية لمن حارب النظام الاستعماري الرأسمالي، ثم دعا إلى اتباع خياراته في المجالات الاقتصادية والسياسية. وبهذه الكيفية، تحوّل حزب جبهة التحرير الوطني إلى الاتجاه الوحيد الذي يرمز إلى الوطنية، وإن كانت بداخله اتجاهات متصارعة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وبقيت الساحة تعرف تطورات حثيثة في مرحلة ما بعد الاستقلال خاصة فيما تعلق ببروز الصحوة الإسلامية ونشأة شعارات جديدة تحمل أطروحات أشمل من تلك التي عرفتها الحركة الوطنية: الإسلام هو الحل. ولم يكن بمقدور أي اتجاه سياسي أن يدّعي القدرة على مواجهة هذا المنطلق البديل للنظر إلى الوطنية خاصة وأن تجربة تحزيبها أظهرت محدوديةً وفشلاً على الصعيدين الاقتصادي (أزمة الثمانينيات الاقتصادية)، والاجتماعي (صراع حول الهوية) في ذات الفترة. وهكذا أصبح طرح الاتجاه الإسلامي بديلا مقبولا للانتقال من الوطنية إلى العبر وطنية، ومن وطنية بلا روح إلى إعطائها روح الإسلام، وكان طرحه أكثر تماسكا والتصاقا بموروث الأمة الحضاري من طرح حزب جبهة التحرير الوطني آنذاك التي كانت تسعى جاهدة للتوفيق بين الخيار الاشتراكي والإسلام في محاولات لا تستقيم بسهولة من حيث التنظير عندما نعود إلى جذور كل من الاتجاهين (الماركسية بالنسبة للاشتراكية والكتاب والسنة الدين بالنسبة للإسلام). ولعل هذا ما أدى بسرعة إلى جانب أسباب أخرى اجتماعية واقتصادية إلى انتصار التيار الإسلامي ممثلا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وإلى عودة حزب القوى الاشتراكية من بعيد في انتخابات 1991، التي كانت الأقرب إلى النزاهة من أي انتخابات سابقة في إطار الحزب الواحد. وكانت نتائج هذه الانتخابات بمثابة لحظة الحقيقة بالنسبة لكل من اعتبر بإمكانية "تحزيب" الوطنية. كما أبرزت بالفعل فشل الاستناد إلى الشرعية الثورية من أجل البقاء في الحكم لمدة ما بعد 30 سنة، والأخطر من ذلك، أنها أعطت فرصة كبيرة لمن لا يملكون تاريخا نضاليا ليحققوا مبتغاهم الكبير في ضرب كل من التيار الإسلامي الصاعد وحزب جبهة التحرير الوطنية باسم تعددية جديدة متحكم فيها. وكاد حزب جبهة التحرير أن يتلاشى في تلك الفترة لتحلّ محله أحزابٌ أخرى تعيد صوغ مفهوم الوطنية من غير احتكار، مثل التجمع الوطني الديمقراطي الذي كان التفكير بين بعض مؤسسيه يدور حول هذه الفكرة قبل انتخابات 1999. إلى أنه تم بعد هذا التاريخ التراجع عن هذا الطرح، وابتكار صيغة التحالف الرئاسي بين التيارين الوطني والجناح المعترَف به من قبل السلطة ضمن التيار الإسلامي، كإطار جديد يقود الوطنية. إلا أن هذا الثلاثي لم يتمكن من أن يكون بحق حاضنا ومولدا جديدا للوطنية، فتلاشى بعد حين ودخل في صراعات حول السلطة والمصالح ألهته عن إنتاج ثقافة وطنية جديدة، ما دفع بأحزاب أخرى ناشئة أو هي في طور التأسيس إلى أن تطرح نفسها بديلا لتجديد الوطنية، وهناك من أطلق على نفسه التسمية ذاتها، وبتنا وكأننا أمام إرهاصات بروز إطار حركة سياسية جديدة تعيد الروح للوطنية الحقة، لولا ما بدا يلوح في الأفق اليوم من عودة جديدة إلى "احتكار الوطنية" احتكارا وراثيا من قبل البعض، ومن محاولات حقيقية سرية ومعلنة لقتل الوطنية الحقة في المجتمع من خلال العودة إلى الحزب الوطني الواحد، وإلى رفع شعارات الوطنية بالوراثة لا بالعمل مع ما كل ما يحمل ذلك من مخاطر على مستقبل البلاد، ينبغي الانتباه إليها. هوامش: * هكذا أصبح طرح الاتجاه الإسلامي بديلا مقبولا للانتقال من الوطنية إلى العبر وطنية، ومن وطنية بلا روح إلى إعطائها روح الإسلام، وكان طرحه أكثر تماسكا والتصاقا بموروث الأمة الحضاري من طرح حزب جبهة التحرير الوطني آنذاك.