تعدّدت مبادرات الوحدة بين أبناء التيار الإسلامي، غير أن النتيجة كانت دائما الفشل. فأين يكمن الخلل؟ هل في الإسلاميين أم في المشروع الذي يحملونه؟ وإلى متى يبقى الإسلاميون منغلقين على ذواتهم؟ وهل في ذلك مصلحة لهم؟ أم إن الوقت حان كي يراجعوا حساباتهم ويفكروا في آليات أخرى تضمن لهم استمرار مشروعهم في المشهد السياسي؟ وهل يمكن اعتبار انخراطهم في تنسيقية الانتقال الديمقراطي تطورا في أدائهم السياسي؟ هذه الأسئلة وأخرى، سيجيب عنها الملف السياسي لهذا الخميس؟ التجربة الرابعة على المحك لهذه الأسباب فشل الإسلاميون في تحقيق الوحدة كشف تعاطي "الحساسيات الإسلامية" مع مبادرة رئيس جبهة العدالة والتنمية، عبد الله جاب الله، الرامية إلى تشكيل "قطب إسلامي" جديد، عن وجود تطور في فكر أبناء هذا التيار، ينزع نحو التخلي عن "مرض" التقوقع على الذات لصالح الانفتاح على الأطياف الإيديولوجية الأخرى. ولم تكن مبادرة جاب الله هي الأولى من نوعها في تاريخ "الحركة الإسلامية" في الجزائر، بل تعتبر حلقة في سلسلة طويلة من الفشل، تعود إلى مرحلة ما قبل الانفتاح السياسي في نهاية الثمانينيات، والسبب دائما أمراض اسمها طغيان النزعة التنظيمية وتغوّل الحساسية المذهبية، وحب الزعامة. ولا يزال العارفون بخبايا هذا التيار، يتذكرون التفاهم الذي حصل في مرحلة السرية، بين الراحل محفوظ نحناح (التيار الإخواني) وعبد الله جاب الله (الإخوان الإقليميون) والراحل محمد السعيد (تيار الجزأرة) في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، على تقاسم مناطق النفوذ تفاديا للاصطدام، غير أن هذا التفاهم لم يكتب له النجاح. وحتى المحاولة الأكثر بروزا في عهد الانفتاح السياسي، التي قادها الشيخ الراحل أحمد سحنون، فيما عرف ب "رابطة الدعوة الإسلامية"، وضمت في البداية مختلف الوجوه والشخصيات المحسوبة على هذا التيار، لم يكتب لها الاستمرار، بحيث تفجرت في بدايتها، وكان من نتائجها بروز ثلاث تشكيلات سياسية صنعت الحدث السياسي منذ ذلك التاريخ إلى غاية اليوم، ممثلة في كل من الجبهة الإسلامية للإنقاذ المحلة، وحركة المجتمع الإسلامي "حماس" قبل أن تتحول إلى "حركة مجتمع السلم"، وحركة النهضة. وبعيدا عن تحميل المسؤوليات، لأن كل طرف يلقي باللائمة على الآخر، فإن أكبر إنجاز حققه التيار الإسلامي على صعيد التقارب بين حساسياته مدفوعا بموجة ما عرف ب "الربيع العربي"، هو ذلك الذي عرف ب "تكتل الجزائر الخضراء" في عام 2011، الذي ضم كلا من حركة مجتمع السلم وحركة النهضة وحركة الإصلاح الوطني، تقارب لم يتجاوز مفهوم الائتلاف، بدليل أنه أنشئ لاعتبارات انتخابية، وهو المشروع الذي قوبل يومها باستخفاف من قبل زعيم جبهة العدالة والتنمية، عبد الله جاب الله، اعتدادا بنفسه، بحسب القراءات التي قدمت حينها. وجاءت "النكسة" التي تعرضت لها مبادرة جاب الله الأخيرة، لتؤكد استشراء مرض الفرقة وحب الزعامة بين أبناء هذا التيار، الأمر الذي ساهم، بحسب متابعين، في تقهقر دوره بشكل لافت في المشهد السياسي في السنوات الأخيرة، وهو الذي كان يحسب له ألف حساب خلال عشرية التسعينيات بكاملها. ويبدو أن أبناء التيار الإسلامي شرعوا بجد في مراجعة حساباتهم السياسية، مستفيدين من تجارب الماضي، بحيث بدأت تتشكل لديهم حالة من الوعي، تنزع نحو الخروج من مستنقع التقوقع على الذات، وهو ما تجلى من خلال انخراطهم في "تنسيقية الانتقال الديمقراطي"، ما يعني أنهم باتوا مقتنعين بضرورة التقارب مع بقية الحساسيات الإيديولوجية الأخرى، الوطنية والعلمانية، التي كانوا يعتبرونها في البداية خصوما لمشروعهم. تقارب لقي تجاوبا من تلك الأطراف، اقتناعا منها بأن مقارعة السلطة يجب أن تمر عبر هذا المنفذ.
الأمين العام السابق لحركة الإصلاح الوطني جهيد يونسي: متطلّبات المرحلة تفرض الانفتاح على الآخرين انتقد رئيس حركة الإصلاح الوطني سابقا، جهيد يونسي، مبادرة عبد الله جاب الله، ودعا أبناء التيار الإسلامي إلى الخروج من قوقعتهم الإيديولوجية والانفتاح على الحساسيات الإيديولوجية الأخرى، واعتبر ذلك ضرورة ملحة لمواجهة متطلبات المرحلة. لِمَ تحفظت عموم الأحزاب الإسلامية على مبادرة عبد الله جاب الله؟ حسب علمي، المبادرة أراد لها صاحبها أن تكون موجهة إلى الأفراد وليس التنظيمات والأحزاب (تصريح صاحب المبادرة)، ولذلك فطبيعي جدا أن ترى الأحزاب الإسلامية نفسها غير معنية. ما خلفيات إعلان المبادرة في هذا التوقيت؟ أظن أن الأحزاب الإسلامية لم تتحفظ ولم ترفض لا المبدأ ولا الشخص صاحب المبادرة، وإنما رأت نفسها غير معنية أصلا بها، ولذلك لم يكن يحق لها -أخلاقياً- أن تتخذ موقفا إزاءها وهذه غير موجهة إليها. هل المشكلة تتعلق بفكرة المبدإ أم متعلقة بمتزعم المبادرة؟ أما عن الخلفيات والمقاصد من وراء مسعى كهذا، فيسأل عنها صاحب المبادرة، فهو من يمكنه الإجابة عن التساؤل: لماذا المبادرة؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ إلى متى سيبقى الإسلاميون على هذه الحال أم إن "تكتل الجزائر الخضراء" يغني عن أي تكتل آخر؟ أظن أن التنظيمات السياسية الإسلامية بإمكانها اليوم تحقيق مستويات عالية في التنسيق البيني والتحالف، ولا أظن أن الحاجة أو المصلحة اليوم في الدعوة إلى انصهار جميع هذه التنظيمات الإسلامية في بوتقة واحدة وإطار تنظيمي واحد لتصير حزباً واحداً، ما دام بالإمكان تحقيق وحدة الموقف بين هذه التنظيمات، خاصة فيما تعلق بأمهات القضايا التي تشغل الرأي العام الوطني، مع الإشارة إلى أن التنظيمات الإسلامية في الجزائر تعد جزءا لا يتجزأ وركناً ركينا في البناء الوطني. وعليه، فالأولوية اليوم بالنسبة إلى القوى الوطنية الراغبة في التغيير هي الاجتهاد في البحث عن المشترك فيما بين جميع التيارات العاملة في الساحة الوطنية، وليس انفراد كل تيار بنفسه. ولذلك، فإن إعلاء يافطات إيديولوجية في هذه المرحلة من طرف أي تيار مهما كانت طبيعته قد يشعل حرباً إيديولوجية بين الفرقاء نحن في غنى عنها. الأمر الذي قد يحدث خلخلة مضرة بتماسك جدار القوى الوطنية المتطلعة إلى دفع النظام إلى الانصياع للإرادة الشعبية والتحول الديمقراطي. فالأولوية الأولى بالنسبة إلى الجميع هي تحرير الإرادة والسيادة الشعبية من رقبة الاستبداد قبل السعي في أي تنافس بين البرامج ومشاريع المجتمع لكل تيار.
قال إن مبادرته تشتت صف المعارضة، عيسى جرادي: جاب الله لا يمثل إلا نفسه والمرحلة تفرض تجاوز الأيديولوجيا قلّل الكاتب المتخصص في شؤون الحركة الإسلامية، عيسى جرادي، من أهمية المبادرة التي أطلقها عبد الله جاب الله لجمع "شمل الإسلاميين"، ورفض أن تحسب على الإسلاميين، مشدّدا بهذا الصدد، أنّ هذا الأخير لا يمثل إلا نفسه، وفي أحسن الأحوال جماعته، قبل أن يؤكد جرادي، أن المرحلة تفرض تجاوز الإيديولوجيات لإحداث خرق حقيقي في المشهد السياسي. بإعلان جاب الله عن مبادرته الأخيرة، هل يكرس الإسلاميون أدبياتهم المنغلقة على الذات؟ الإسلاميون طيف واسع، لا يمكن ضغطهم في شخص أو جماعة أو حزب، وهم إلى جانب هذا يتقاطعون في رؤى وأفكار مشتركة، لكنهم يتفرقون حول رؤى وقضايا أخرى، لا تقل أهمية وخطورة، والشيخ عبد الله جاب الله في نطاق مبادرته، لا يمثل إلا نفسه، وفي أحسن الأحوال جماعته. أما أن يكون كل الإسلاميين يعيشون في عزلة عن غيرهم، فهذا غير صحيح، بدليل أنهم يتواصلون عمليا مع غيرهم من الفاعلين السياسيين، شخصيات وأحزاب، وحتى سلطة، ولنا في تشكيلة تنسيقية الانتقال الديمقراطي مثال حي على ذلك. هل مثل هذه المبادرات تخدم الممارسة السياسية في البلاد في ظل المعطيات القائمة؟ في تقديري أن الممارسة السياسية في الجزائر بحاجة ماسة إلى إعادة تأهيل جذرية، على مستوى " من يحكم " أولا "، وعلى مستوى "من يعارض" ثانيا، لأن احتكار السلطة بدل التداول عليها هو سير في اتجاه مسدود، وقتل مقصود للحلم الديمقراطي، وهو حلم مشروع يجب إنزاله إلى الواقع. وحين يبادر حزب "معارض" بمفرده، بمبادرة قد تشتت صف المعارضة، فأعتقد أن هذا لا يخدم مشروع المعارضة نفسها، القائم ابتداء على تجميع قواها المتواضعة _ في هذه المرحلة - لحمل السلطة على مراجعة خياراتها ومواقفها. هل ترى ضرورة تجاوز الخلفية الإيديولوجية في العمل السياسي القائم على أولويات المرحلة؟ في المرحلة الراهنة، أعتقد ذلك، فثمة غاية مشتركة بين الجميع، هي إحداث خرق وتغيير حقيقي في المشهد السياسي للدولة الجزائرية. وفي مواجهة سلطة مصرة على تفريق المعارضة وتفجيرها، يجدر بالمعارضة بمختلف أطيافها، الاتحاد والتنسيق وحشد الطاقات المتاحة لديها جميعا، وهذا أضعف الإيمان. ما مستقبل الإسلاميين في المشهد السياسي في ضوء هذه الخطوة؟ هذه المبادرة التي أظنها ولدت ميتة، وهي عمليا لا تعني إلا صاحبها، لن تؤثر بشيء في مستقبل الصف الإسلامي، المتسم أصلا بالضعف والتفكك، إلا من بعض المحاولات التي وإن اتسمت بالصدق، إلا أنها تفتقر للفعالية، ثمة كثير مما يجب على الإسلاميين فعله.
أكد أنّ الخطوات القادمة ستكون محل نقاش، بن خلاف: المبادرة مستمرة رغم تخلف القيادات الإسلامية أبدى لخضر بن خلاف تفهّم رفاقه لعدم تجاوب الأحزاب الإسلامية مع مبادرة "جمع الشمل"، مؤكدا أن لا مصلحة خاصة فيها لجبهة العدالة والتنمية، بل هي لصالح الوطن والمشروع الإسلامي، وكشف القيادي في الحزب، أن المسعى سيتواصل ضمن نقاشات الهيئة الوطنية لتحديد الخطوات القادمة. كيف استقبلتم التفاعل المحتشم مع المبادرة، والموقف السلبي للقيادات منها؟ بخصوص التفاعل المحتشم مع المبادرة، أعتقد أنه من السابق لأوانه الحكم عليها، على اعتبار أنها لم تخط إلا خطوتها الأولى، من خلال إطلاق نداء إلى أبناء المشروع الإسلامي، من أجل التلاقي للتحاور ثم التشاور حول الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تواجهها الجزائر، والآفاق المرجوة لبناء مستقبلنا من أجل مجد الإسلام وعز الجزائر وازدهارها، والمعلوم أن هذه المبادرة ليست موجهة إلى التنظيمات، بقدر ما هي موجهة حصرا إلى الأفراد، من أصحاب الفضل في الدعوة والنضال، وعموم أنصار المشروع الإسلامي، أما عن الموقف المتحفظ لبعض القيادات من هذه المبادرة، فإننا لا نملك إلا أن نعبر عن احترامنا لآرائهم والتماس العذر لهم، على اعتبار الإخفاقات التي منيت بها المساعي المبذولة على مدار عقود. فنحن بهذه المبادرة نحترم التعددية الإسلامية القائمة وعدم التعرض لها بالسوء، ولزوم منطق الحق والعدل في العلاقات المختلفة معها ومع غيرها؛ فالمبادرة للأفراد، فمن رضي وانخرط في المسعى فله الشكر، ومن أعرض فله عذره، قال تعالى: "كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوْ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ". لكنّ البعض شكك ضمنيا في نوايا العدالة والتنمية، وطرح استفهامات حول خلفياتها، بماذا تردون على ذلك؟ النوايا لا يعلم خباياها إلا الله، فهو وحده الذي يعلم السر وأخفى، ونحن مطالبون بالتعاطي مع الآخرين من خلال ما يصرحون به ويتخذونه من مواقف، لا بما يضمرونه من نوايا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فجبهة العدالة والتنمية ليست هي صاحبة المبادرة، باعتبارها حزبا سياسيا، بل أفرادها سواء كانوا في القيادة أم القاعدة، بالإضافة إلى العديد من الإطارات التي حضرت الندوة، وكثير ممن تعذر عليه الحضور، ولكنهم استحسنوا المسعى وعبروا عن استعدادهم للالتحاق به. يعني هذا أنك تنفي وجود حسابات سياسية خاصة بحزبكم في إطلاق الفكرة؟ ليس لجبهة العدالة والتنمية أي حسابات خاصة، ولو كان لها شيء من ذلك لتبنت هذه المبادرة، وكانت هي الداعية للانخراط في هذا المسعى. ما هي الخطوات القادمة ضمن آليات العمل الذي تخططون للقيام به؟ المبادرة حددت في آخر ندائها الموجه لأبناء وأنصار المشروع الإسلامي في الجزائر نقطتين أساسيتين، الأولى تتعلق بحوار جاد ومسؤول حول القضايا السياسة والدعوية، وواقع البلد الذي يمر بأصعب الظروف ومعه أبناء التيار الإسلامي، وما يعيشونه من تشرذم، والثانية تتعلق بالأشكال التنظيمية المناسبة لاستيعاب مختلف الطاقات المعطلة من أنصار هذا المشروع في خدمة دينهم ووطنهم، وهذا ما سيكون محل نقاش وتشاور الهيئة الوطنية مستقبلا.