يكشف المجاهد موسى عيساني فصول "واقعة الثنيّة" على طريق البويرة مع العقيد شعباني، والتي يعتبرها مخططا فاشلاً للتصفية الجسدية، كان أبرز المشرفين على تنفيذه العقيد أحمد بن شريف، الذي تكفّل بتحضير سيارة الاختطاف المجهض، وباعتباره مسؤولا للحراسة الأمنية عن قائد الناحية الرابعة، ومرافقا له في تلك السفرية نحو العاصمة، فقد سرد موسى عيساني تفاصيل ما جرى ليلتها، بدء من توقيف القبطان بوحرارة لمجموعة شعباني إلى تدخّل الرئيس أحمد بن بلة لتحريره. وفي الجزء الثاني من حواره مع "الشروق"، يقدم مسؤول الأمن العسكري سابقًا بالناحية الرابعة شهاداته التاريخية حول حقيقة الخلاف ودوافعه بين مسؤوله العقيد شعباني ووزير الدفاع هواري بومدين مطلع الاستقلال، ويرفض اعتبار تصرفات شعباني تمرّدا ضدّ الدولة، واصفا الرجل بالوطني المخلص والثوري النزيه والنادر، على حدّ قوله. ويؤكد موسى عيساني أن محمد شعباني رفض عرضًا من الرئيس أحمد بن بلة بتعيينه نائبا له، موضّحا أن ما كان يريده هو تحديد صلاحيات وسلطات وزير الدفاع وقتها لا أكثر، كما يكشف أنّ بن بلّة انقلب على شعباني و"باعه" لمساعده هواري بومدين، بسبب موقفه من الخلاف مع جبهة القوى الاشتراكية، إذ كان شعباني يدفع نحو الحلول السلمية والسياسية التفاوضيّة على حساب القوة، وهو الأمر الذي رآه بن بلة تهديدا لموقعه في سدّة الحكم، وبالتالي ابتعد عن شعباني وتركه فريسة سهلة لخصه اللدود العقيد بوخروبة.
توقفنا في الجزء الأول من الحوار عند محاولة الاختطاف الفاشلة لمجموعة علي التونسي، نفس السيناريو تكرّر في منطقة الأخضريّة بالبويرة خلال تنقلكم للعاصمة؟ بالضبط، والواقعة جاءت أثناء تنقلنا للعاصمة باستدعاء من الرئيس بن بلّة، لشرح ملابسات المحاولة الأولى الفاشلة، لكن أوضّح فقط، أنّ الحادثة المعنيّة وقعت في منطقة الثنية، عند مفترق الطرق بين تيزي وزو و البويرة، عندما أوقفنا القبطان بوحرارة في حاجز أمني هناك، طالبًا وثائق السيارة، فمنحتها إياها، وأخبرته أن السيارة التي هي خلفي، تحمل العقيد شعباني، وإذا كان بحاجة إلى أيّ معلومات، فأنا أتولى إجابتك عنها، فردّ عليّ قائلا " ها ذاك شغلي"، ليتوجه مباشرة نحوه، فنزلت على الفور من سيارتي، وأشهرت سلاحي في وجهه، وقلت له " أنا أيضا أقوم بشغلي"، قبل أن يأمرني شعباني بإخفاء السلاح، فأدّى "بوحرارة" التحية العسكرية للعقيد، ثم قال له : "سي شعباني لديّ أوامر بنقلك إلى الثكنة"، فردّ عليه " أنا عضو مكتب سياسي وقائد ناحية عسكرية، لا أحد يعطيك مثل هذه الأوامر سوى الرئيس أحمد بن بلّة"، ودخل معه في جدال عطّل حركة المرور في الطريق، حتى وصلت الأصداء لعموم الشعب، حينها وافق شعباني على مرافقة القبطان بوحرارة إلى الثكنة، شريطة أن يربطوا له الاتصال مباشرة مع الرئيس بن بلّة، فانتقلنا سويّا للمكان، وبعد محاولات متكرّرة، تمكّن العقيد شعباني من الكلام مع الرئيس بن بلّة، وأطلعه على ما جرى، فتدخّل الأخير، موبّخا القبطان بوحرارة، وآمرًا بالإفراج عن شعباني ورفقائه، وبذلك سقط مخطط الاعتقال.
هل كانت العملية، بحسب معلوماتكم، خطة للتصفية الجسدية أم فقط للاختطاف والترهيب؟ العملية تمّت بأمر مباشر من وزير الدفاع هواري بومدين، حيث اكتشفنا عن طريق جندي في الاتصالات السلكيّة بين الدرك و الوزارة، أن تعليمات صدرت بتسليم شعباني و رفقائه لقيادة الدرك، عبر سيارة أرسلها العقيد أحمد بن شريف، في إطار مخطط للتصفية الجسدية.
العملية فشلت في الطريق و نجوتم، أين توجهتم بعد الإفراج عن المجموعة ؟ قصدنا بيت أحد أصدقاء شعباني في برّاقي بالعاصمة، و استدعى قائد الناحية الساسي الحسين و محمد جرابة للتشاور حول ما حدث، في حين أرسلني أنا إلى بسكرة لوضع نائبه محمد روينة في صورة الأحداث، و تهيئة الناحية في حالة تأهب و استعداد. بعد ثلاثة أيام، وصلنا إلى الرئيس أحمد بن بلة، و لأول مرة أرى شخصًا يقبل آخر ستة مرات، في حركة رمزية، تعبّر عن الاعتذار المعنوي، من وجهة نظري، مؤكدا له البراءة مما حدث، ورمى بالتهمة على هواري بومدين، بينما اتّهم الأخير بن شريف، وهذا بدوره مسحها في القبطان بوحرارة، في حين طلب بن بلّة من شعباني أن يصبر علبه إلى غاية مؤتمر الأفلان، واعدا إياه بتعيينه في منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية.
ماذا كان رد العقيد شعباني على كلام بن بلة؟ قال له بصريح العبارة "أنا لا أبحث عن المسؤولية، يكفيني منصبي، ولا أطلب طرد بومدين بل تحديد صلاحياته".
تعتقد أن بن بلة كان صادقا في ترشيح شعباني كنائب له؟ لم يكن صادقا و لا جادّا، و لكن غازله بالمنصب، بغرض الاحتفاظ بثقته، و الإستقواء به ضد بومدين .
لكن جدار الثقة سقط لاحقا، لماذا حصل التنافر بينهما؟ في جلسة خاصة بين العقيد شعباني و محمد أولحاج، كان الأخير يدافع عن مطلب آيت أحمد في انتخاب المجلس التأسيسي، فوعده شعباني بالسعي لدى الرئيس بن بلة في هذا الاتجاه، ففقال أولحاج إن" بن بلة قد يرفض المطلب"، ليرد شعباني بدوره أن " بن بلة مثل السكوتش"، أي أنه سهل الاقتلاع، فوصلت العبارة إلى المعني، ليتأكد بن بلة أنه لا يمكن التعويل على شعباني في مواجهة الأفافاس، فهو يميل إلى الحل السياسي و السلمي في معالجة الأزمة مع "الولاية الثالثة"، و بذلك نفض بن بلة يديه من شعباني، خوفًا على منصبه كرئيس، و إثرها، فوّض بذلك مصير شعباني إلى خصمه اللدود، وزير الدفاع ، حيث اغتنم هواري بومدين الفرصة، و في غضون 15 يومًا، أبرم اتفاقا مع فرنسا، وبمقتضاه، جاء بالجنود الجزائريين في الجيش الفرنسي إلى الجيش الجزائري، ليكمل بذلك مشروع التمكين لضباط فرنسا. وهنا أذكّر أن العقيد شعباني كان على علم بتوجه بومدين لإدماج هؤلاء الجزائريين، فأبلغ الرئيس بالأمر، قبل توقيع الاتفاق بين بومدين والطرف الفرنسي، وقال له بالحرف " إنّ هؤلاء قاتلونا ولا يزال الدم ينزف ولم ينشف"، لأنه كان ضدّ فئة الجزائريين الذين ظلّوا مع العدو إلى نهاية الثورة. لكنّ بن بلة لم يفعل شيئا، لأنه لا يستطيع الوقوف في وجه بومدين، بعدما تخلّى عن شعباني، حيث استمرّ وزير الدفاع في مخططه، ليقوم بتفكيك الناحية الرابعة، و نقل مقرها إلى ورقلة، حتّى وصل إلى عزل شعباني من قيادة الناحية و تعيين علي ملاح بدله.
لكن هناك رواية تتحدث عن تمرّد شعباني و مجموعته ضد الدولة؟ هذه مغالطة كبرى، شعباني لم يتمرد، و لا أي من أنصاره، ولم يطلقوا رصاصة واحدة ضد إخوانهم.
ماذا حصل بالضبط إذن، حتى نال العقيد شعباني حكم الإعدام؟ في تلك الفترة حاول العقيد شعباني التفاوض مع جماعة بن بلة وبومدين، حيث أجرى اتصالات مع الرئيس بن بلة و آخرها نهاية جوان 1964م، حيث قال له بالحرف الواحد" لقد خدعتنا باسم الإسلام و العروبة"، مضيفا " إذا سرتُ معكم سوف يحطمني خاوْتي...و إذا سرت مع خاوْتي تحطمونني أنتم ... لذا اخترت أن أكون مع خاوْتي"، و في يوم 30 جوان 1964 م، جاء وفد عسكري على رأسه عمار ملاح لاستلام مهام قيادة الناحية، استقبلته شخصيّا رفقة محمد روينة نائب شعباني، فقال له " يا عمار يا خويا... إحْنا نحبّوك، لكن المنصب الذي جئت إليه فيه مُولاه"، ثم أخبرنا شعباني بالأمر، فحضر إلى عين المكان، وعند بوابة الدخول لمقر الناحية، أدّى الوفد التحية لقائدها ثم غادر، لنفاجأ عند منتصف تلك الليلة بالرئيس أحمد بن بلة يخاطب الشعب الجزائري عبر الإذاعة، زاعمًا أن شعباني قد تمرد، كما دعا أفراد الجيش إلى عدم الانصياع وراءه.
أنتم في الحقيقة تمردتم حينما رفضتم عزل شعباني؟ لا، لم تكن النية إطلاقا التمرد، بل كنا نريد فتح قنوات للتفاوض من أجل حماية وحدة الجيش، و لم نكن نتوقع أبدا أن تأخذ الأحداث المجرى الذي أخذته، قبل أن نفاجأ في نفس الليلة بأحد المواطنين من بسكرة، يخبرنا أن هناك قوة عسكرية هائلة، قادمة من باتنة في طريقها إلينا، وقد منعوا السائقين من التجاوز حتى لا يتسرّب الخبر لقيادة الناحية الرابعة، حينها أطلعنا شعباني على تطورات الأحداث، فأمر بإيقاظ الوحدات العسكرية ومنه وحدات بومدين من التقدم لحدود الولاية، ثمّ أبلغ القيادة السياسية المحلية، ثم عقد تجمعا شعبيّا في الصباح، ولا زلت أذكر أنني تقدمت منه، وهو يلقي خطابه فوق المنصة، وهمست في أذنه أنّ قوة بومدين دخلت المنطقة، فتسرّب صوتي عبر مكبّر الصوت، لتعلوا صرخات وصيحات المواطنين ثم تفرقوا في كافة الاتجاهات.
ثم حصل بعدها؟ مسكت بيده وتوجهنا نحو مقرّ قيادة الناحية، وبعدما استدعى نائبه في زمن الثورة، وهو الرائد عمر صخري للتشاور حول الوضع، فقال له الأخير " إنّ بومدين لن يفعل شيئا قبل 05 جويلية"، في حين كلّفه شعباني بالإشراف على مدية بسكرة، متوجّها هو إلى بوسعادة للوقوف على باقي الوحدات.
كيف وجدتم الأوضاع في بوسعادة؟ تعرّضت ثكنتها إلى هجوم شرس من طرف قوات بومدين، ما دفع بالعقيد شعباني إلى أن يخطب في ألفي عنصر من جنوده، يحذّرهم من قتل إخوانهم المجاهدين، قبل أن يأمرهم بالانسحاب إلى منطقة عين الملح في طريق الجلفة حتى لا تدمّر مدينة بوسعادة عن آخرها بحجة ملاحقة أنصار شعباني.
ماذا جرى بعد خروجكم من بوسعادة، و كيف تم الإيقاع بالعقيد شعباني بعد ذلك؟ توجهت رفقة العقيد شعباني و سائقه إلى منطقة الحمّالات (25 كم شرق بوسعادة)، لتدارس الوضع مع قيادات الثورة، حيث اجتمعنا مع الساسي حسين و سليم الجيلالي، و برفقة 12 جنديا كانوا يؤمّنون حراسة المكان، ومن هناك بعثنا برسالة تفصيلية إلى الطاهر الزبيري و العقيد سي حسان (يوسف الخطيب)، و كامل قادة النواحي الأخرى، للبحث عن مخارج لأجل حلّ سلمي، و بعد 7 أيام من المكوث في الحمّالات، تعب "الرباعي" من البقاء في الحمّالات، فطلب العقيد شعباني أن نتقدم إلى أحد البيوت على مسافة 5 كم، للاستجمام وأخذ قسط من الراحة في ظروف أفضل، و هناك باغتنا 600 جندي من قوات بومدين في الصباح الباكر، والذين عجز جنود الحراسة (12 فردا) عن صدّهم، حتّى وصلوا إلينا، إذ انقسمت حينها المجموعة (04) إلى زوجين، و تمّ إثرها اعتقال العقيد شعباني الذي سقط على الأرض بسبب التوجّع من آلام القرحة المعدية، لينتهى به المطاف من أصغر عقيد في الثورة إلى معدوم على يد رفاقه من المجاهدين.
ومن هناك اقتادوه إلى مركز في بوسعادة تحت إشراف أحمد بن شريف، أين تعرّض لحادثة كأس القهوة، هل هي دقيقة أم إشاعة؟ فيما يخص نقل العقيد شعباني لمركز بوسعادة تحت إشراف بن شريف، هذه معلومة دقيقة، أما بخصوص حادثة كأس القهوة لا يمكن أن أؤكدها أو أنفيها، لأنه لا أحد منّا كان برفقته لحظتها، لكن سمت من مصادر متعدّدة أنّ بن شريف طلب من شعباني أن يطلب ما يريد إذا كان يرغب في أي شيء، فطلب الأخير كأس قهوة، وحينما أحضر أحد الجنود القهوة رماها بن شريف على وجه شعباني.
البعض يقول إن رفاق شعباني (الكثير من قيادات الولاية السادسة)، الذين رفض أن لأجلهم، ووفاء لهم، أن ينحاز لبن بلّة وبومدين، وكان في مقدوره أن يفعل ذلك، هؤلاء قد خانوه وغدروا به، ثمّ نالوا مكافآتهم بعد تلك المرحلة؟ أنا من الذين يشاطرون هذا الرأي، وأعرفهم واحدا واحدا، ولكن لا أريد الدخول في مهاترات تاريخية، الجميع يعرفهم بأسمائهم ومناصبهم السامية، تآمروا على شعباني وفق قاعدة " مع الواقف"، وبعد ذلك أخذوا المكافأة، ويمكن أن أستثني الرائد عمر صخري، وربّما عدد قليل من آخرين لا أستحضرهم الآن.
وفق روايتك أنت، فإن المدبّر الحقيقي للتخلص من شعباني هو بومدين، لكن البعض يؤكد أن بن بلّة هو منْ أصرّ على تنفيذ الإعدام؟ هذا صحيح تماما، لكن بومدين هو المدبّر والمستفيد الأول من اختفاء شعباني، ولو كان رافضا لذلك، ما تجرّأ أحد، لا بن بلّة و لا غيره، أن يقرّر الإعدام أو ينفذه، وستبقى القضية من الملفات العار في تاريخ جزائر الاستقلال، ونقطة سوداء مسار الرجلين.
يبدو أنك ما زلت متأثرا حتى الآن بإعدام شعباني؟ طبعا، لأنّ شعباني لم يكن قائدا عاديًا، بل إنسانا فوق ما تتصور من النزاهة والتجرد والأخلاق والوطنيّة، هو ثوري نادر جدّا، قُتل ظلمًا من أجل السلطة التي لم يفكّر فيها يومًا، بل آمن بجزائر الإسلام والعروبة، لذلك انسحبت طواعية من صفوف الجيش الشعبي الوطني بعد إعدام قائدي شعباني، وتوجهت للأعمال الحرّة.