هناك قصة يعرفها كل من اطّلع على مسيرة الحركة الوطنية وهي انعقاد المؤتمر الإسلامي سنة 1936 في مدينة الجزائر. وتذهب القصة إلى أن المؤتمر كان قد طالب بإلحاق الجزائربفرنسا، فلما حضر مصالي الحاج واعتلى المنصة حفن حفنة من تراب ورفع بها يده إلى أعلى وقال بصوت عالٍ وبنبرة سياسية مقصودة: إن هذا التراب ليس للبيع! وسواء صدقت القصة بتفاصيلها أو لم تصدق، فإننا اليوم في حاجة إلى من يعتلي المنبر ويرفع أيضا حفنة من تراب الوطن ويقول للسياسين المتلاعبين بمصيره أن يكفّوا عن تلاعبهم وأن تراب الوطن ليس معروضا في المزاد العلني. ففي خضم ما قد يسمّى معركة تمجيد الاستعمار أو تجريمه، برز بعض السياسيين وأخذوا يتفوّهون بكلام غير مسؤول يدل على تدنّي ولائهم الوطني وضعف معرفتهم بمسيرة التاريخ. فأنت تراهم يصدرون تصريحات فيها استهتار بذاكرة الأمة ومصيرها. ترى من وكّلهم ليتحدّثوا باسم ضحايا الجريمة الاستعمارية أو بتمجيد رسالة فرنسا الحضارية؟ إن موقفهم الساذج أو المخادع هو الذي جعل الأعداء أنفسهم يسخرون من تصريحاتهم الفجّة ويكيّفون حركاتهم في التعامل مع الجزائر على وقعه النشاز. تمجيد أو تجريم؟ منذ حوالي خمس سنوات ونحن نسمع أصواتا تعلو حينا وتنخفض حينا آخر عن جرائم الاستعمار أو تمجيده، والاعتذار من عدمه، وقيمة التعويض الواجب للضحايا، وهل يكون الخطاب بلهجة شديدة أو بالهمس والرمز، وأخيرا خرج بعضهم يدعو إلى التخلي مطلقا عن موضوع التجريم، فكأنّ الموضوع وما فيه هو ملك لفرد أو لحزب. إن مرتكبي الجرائم أنفسهم أصبحوا لا يكترثون بما يقوله كبراؤنا لأن المجرمين يعرفون أن أصحابنا من تذبذبهم لا يعبّرون إلا عن أنفسهم. إن جرائم الاستعمار مؤرخة ومصنّفة في وثائق مرتكبيها، ولا تحتاج إلى فلسفة سقراط ولا إلى قانون حمورابي. فما علينا إلا أن نراجع سجل الاحتلال لنعرف كيف بدأت المأساة وكيف انتهت، ثم نتابع خطوات الاحتلال على أرضنا ومحطات الإبادة والقمع والمخططات الاستراتيجية لإلغاء الشعب من الخريطة لنكتشف أسرار وأهداف المأساة. فقد شملت الإنسان والأرض، والدين واللغة والتاريخ، والهوية والهواء، وحتى الماء والغذاء. والشواهد على ذلك ليست من اختراع الجزائريين أو من أساطير الأولين، فلماذا اللّفّ والدوران، والتقدم والتراجع. وفي مقابل تخاذل السياسيين أصبح الضحية هو المجرم، وأصبح جيش الاحتلال، حسب فلسفة أتباع سان سيمون، هو رافع راية الحضارة والتقدم في الجزائر. وما دام أجدادنا لم يستقبلوا هذا الجيش بالورود والأحضان، وبالتمر والحليب، والسجود بالطريقة التي رسم بها الفرنسيون ركوع قسنطينة عند أقدام الضابط دي لامورسيير، فإن على أحفادهم ألا يطالبوا بحق الاعتذار ولا بالتعويض ولا برد الاعتبار، وأن ينسوا تفجيرات رقان وضحايا خط موريس وشال. الاحتفال بمآثر الاحتلال والعجب أن بعض الجزائريين احتفلوا وما يزالون يحتفلون بمآثر الاحتلال، لقد احتفلوا بمرور مائة سنة على إنشاء "جامعة الجزائر" كأنهم لم يقرأوا أنها كانت مخبرا لصنع السياسة الاستعمارية في شمال إفريقيا وغربها. ألم يدرسوا قانون إنشائها؟ ألم يقرأوا أن من أساطينها رينيه باصي (40 سنة عميدا لكلية الآداب)، وإيميل غوتييه، وأوغسطان بيرنار وجورج إيفير وجورج مارسي؟ ترى لماذا لم يطلعوا على إنتاج هذه المؤسسة التي كانت تخدم الاستشراق والتبشير، وظلت رمزا للفرنكوفينية بعد استقلال الجزائر حيث كان يديرها فرنسيون وجزائريون بالاسم والجغرافيا لا بالقلب والهوى. عندما استرجعنا الاستقلال لم نسترجع معه في الواقع جامعة وإنما استرجعنا معه بقايا مساجد وزوايا ومدارس وأوقاف كان قد سطا على جميعها المحتلون واغتصبوها منّا. وهكذا، فنحن لم نسترجع متاحف ومسارح ومطابع مثلا لأننا لم ننشئها أصلا وإنما ورثناها عن الإدارة الاستعمارية، ولم نسترجع اللغة الفرنسية وإنما اعتبرها البعض منّا غنيمة حرب. وبناء على هذا المنطق، فإن جامعة الجزائر ما هي إلا غنيمة حرب. فهل يصح بعد هذا التصنيف أن نعتبرها صفحة من صفحات المجد الاستعماري وعلامة من علامات حضارتنا الموروثة؟ إن منطق الأشياء يقول إنها فقط رمز من رموز الغزو الثقافي المعدة للقضاء على هويتنا الثقافية بكل عناصرها. وهناك جزائريون آخرون يحسنون الصيد في الماء العكر والوقوف في ظل قدماء الاستعمار، احتفلوا أيضا بالمدارس الأهلية التي أنشأتها الإدارة الاستعماية بعد جيلين من التجهيل والإهمال. وهكذا أشاد هؤلاء بالاحتلال وأمجاده ومآثره العلمية والثقافية. ولا ندري إن كان هؤلاء المشكوك في وطنيتهم والمطعون في هويتهم يدركون أن المحتلين لم يبنوا "المدرسة الأهلية" إلا بعد أن اغتصبوا مؤسساتنا التعليمية وحولوا أوقافها إلى أملاك الدولة فكانت هذه المؤسسة تغدق على "المدرسة الفرنسية" المعدة لتعليم أبناء الفرنسيين تعليما راقيا قبل أن تبدأ في التقتير على "المدرسة الأهلية" المعدة لتعليم أبناء الجزائريين تعليما بمستوى دعائي هابط. تبرئة الأديب كامو وأمثاله إن الدعوة إلى تبرئة الأديب ألبير كامو من ذنب الوقوف ضد حرية الشعب الجزائري تدخل في محاولة تجيير الاستعمار وتلميع صورته لتبدو كأنها بيضاء لاشية فيها؛ ذلك أن موقف كامو من حرية الجزائر معروف، وقد سجله عليه رفقاؤه المفكرون حين رفض توقيع البيان الذي أصدروه دفاعا عن حرية الشعوب، أمثال جان بول سارتر. ورغم انتماء كامو إلى اليسار ووقوفه كفيلسوف وجودي إلى جانب الحرية نظريا على الأقل، فقد رفض التخلي عن فكرة "الجزائر الفرنسية". وقد حاسبه النقاد المعاصرون له على تناقضه الإديولوجي. ولا تهمنا الآن محاولة بعض الجزائريين التماس العذر له (ولأمثاله من أدباء الجزائر بالفرنسية الذين اكتفوا بنقد عنصرية المستعمرين). فقد حاول بعض النقاد الجدد أن يفسّروا موقف كامو تفسيراً تعسّفيا فجعلوا منه نصيرا لحرية الجزائر رغم أنفه وجعلوا من كتاب الجزائر بالفرنسية دعاة انفصال عن فرنسا، وهي دعوى بدون دليل تاريخي مقنع. ولا نظن أن كامو نفسه يرضيه أن يؤول الخرّاصون والنقاد المزيّفون رأيه. فلو كان حيّا لتمسك برأيه ولدافع عنه بشجاعة أكبر من شجاعتهم ولعبّر عن وفائه لأمه فرنسا، كما كان يسميها. ولكن أصحابنا لا يريدون خدمة الفكر ولا الفلسفة وإنما يريدون تمجيد الاستعمار عن طريق تمجيد أديب لامع من أدبائه، فهل الجزائر في حاجة إلى غطاء جاك بيرك وموتلانسكي وكامو (كلهم من مواليد الجزائر) بعد العقم الأدبي والفني والعلمي الذي حلّ بها نتيجة سياسة فرنسا الاستعمارية؟ إن الذين يمجّدون كامو وجامعة الجزائر والمدارس الأهلية وغيرها، هم أحفاد من نفى وجود الجزائر قبل فرنسا ومن مدح فرنسا على ما وفرته للجزائر من خير عميم. وقد يقولون إن إيتيان ديني فرنسي خدم الجزائر بفنه المثير، وأن لافيجري فرنسي خدم الجزائر ببركته الربانية، وأن شارل دي فوكو فرنسي خدم الجزائر حين حمى الصحراء من الأرواح الشريرة، وأن شارل دي غول فرنسي خدم الجزائر بإعطائها الحرية وإدخالها إلى النادي النووي الدولي؟ فعلى الجزائريين الحقيقيين اليوم أن يعوا هذا الخلط الخادع وأن يميزوا الطيب من الخبيث، وألا يصدقوا كل ناعق، وألا يعتقدوا الغفلة في كل ناهق. إن أناس من بينهم يمجدون اليوم الاستعمار ورموزه، وغدا سيخرجون إلى العلن ويشيدون بسوستيل وماسو ولاكوست وسلان وغيرهم ممن دافعوا عن الجزائر الفرنسية حتى تكسّرت نصالهم على النصال لمنع الجزائريين من الرجوع إلى حضارتهم العربية الإسلامية. فالمسألة عندهم مسألة حياة أو موت. ڤمار: 31 مارس 2010