ضجيج دائم وصخب مستمر ليلا ونهار..هو حال المدن الجزائرية ذات المعروفة بالكثافة السكانية.. ضوضاء.. باتت سمة مميزة لبيئة يضطر الجزائريون العيش فيها محتمين، لدرجة وصل بهم الأمر في السنوات الأخيرة قضاء ليالي بيضاء صيفا..وحتى شتاءا!. أصوات عالية، العاب النارية، أعراس حتى الصباح، صراخ، منبهات السيارات، طنين الدرجات النارية، آلات أشغال عمومية، وضجة الأجهزة الالكترونية والأعمال المنزلية، شاحنات النظافة..كل هذا يحدث ليلا، أما في النهار فحدث ولا حرج..ضجيج مروري، ضوضاء المصانع والورشات، وأصحاب الحرف، وأصوات الباعة، وآلات الأشغال العمومية ورفع الردم..إنها حالة تلوث بيئي يزحم إلى أجسادنا ويدفعنا للموت البطيء..تلوث يهدد المستقبل العقلي والفكري للتلاميذ والأجيال الصاعدة. حسب الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث العلمي"فورام"، مستوى الضجيج المروري تعدى مقياس 78ديسيبل، وصلت شدة الضوضاء في غرف الأطفال إلى 55 ديسيبل، بينما تضبط منظمة الصحة العمومية، الحد الأقصى للضجيج في المحيط الحضري، عند 70ديسيبال، و35 ديسيبال في الفضاء المغلق أي داخل المنازل. وأكد رئيس هيئة"الفورام"، البروفسور مصطفى خياطي، أن 18 بالمائة من الأمراض التي تصيب الأطفال في المدن الكبرى الجزائرية وأكثرها العاصمة، ناجمة عن الضوضاء، والصحة العمومية أصبحت في خطر، بعد أن تحول الضجيج والصخب في الأحياء الشعبية إلى ظاهرة تقلق السكان. وقال البروفسور خياطي، إن 60بالمائة من الجزائريين يعانون التوتر السمعي والإرهاق اليومي والضغط الدموي بسبب هاجس الضوضاء. من جهته، كشف البروفسور ونوغي، رئيس مصلحة أمراض الأنف والحنجرة بمستشفى البليدة، عن تسجيل حالات إصابة بالصمم لأشخاص يقطنون في أحياء شديدة الضجيج والصخب وقال إن التلوث الضوضائي بات من اخطر التلوثات البيئية التي تهدد السمع والغدة الدرقية و يصيب الجهاز التنفسي بالحساسية الحادة.
70 بالمائة من أمراض القلب والضغط الدموي مصدرها توتر ضجيجي وحذر البروفسور جمال الدين نيبوش، طبيب أمراض القلب بمستشفى نفيسة حمود "بارني" بحسين داي، من ظاهرة الضجيج والضوضاء التي بلغت ذروتها في السنوات الأخيرة، ولم تعد مشكلا صحيا فقط بل أخلاقيا يهدد الأطفال قبل الكبار. وأكد أن 70بالمائة من أمراض نقص ضخ الدم في القلب والضغط الدموي هي ناجمة عن نقص النوم والتوتر السمعي التي تسببها الضوضاء في الأحياء الشعبية والمدن الجزائرية الكبرى. وقال إن مصلحة حسين داي، تستقبل مرضى يشتكون دائما قلة النوم وقلق الضجيج. وحسب البروفسور جمال الدين نيبوش، فإن ضجيج النقل يزيد من فرص الإصابة بالسكري، حيث تزيد الضوضاء هرمون التوتر الذي يؤثر على عملية التمثيل الغذائي"الأنسولين".
انهيارات عصبية نتيجة الأرق واضطراب النوم في السياق، كشف البروفسور محمد تجيزة رئيس مصلحة الأمراض العقلية بمستشفى دريد حسين، للشروق، أن الضوضاء في المدن الجزائرية هو تلوث خفي خطير ساهم في الآونة الاخيرة بشكل ملفت للانتباه، في أمراض نفسية وعصبية وعقلية، حيث يؤدي شهريا إلى 15 حالة انهيار عصبي ناتج عن أصوات مرتفعة بينها الألعاب النارية والمفرقعات وضجة آلات الحفر ورفع الردوم ليلا، وحالة الارق وقلة النوم، مضيفا أن 10بالمائة من الأمراض العقلية التي تعالج في مصلحته، سببها اختلال الجهاز الحلزوني للأذن. وأوضح، أن التلوث البيئي الضوضائي، يؤدي إلى تغيرات فيسيولوجية وهرمونية تصيب أجسام الجزائريين، خاصة الذين يقطنون في شوارع مكتظة بالسيارات والشاحنات وآلات الحفر، ومعدات البناء والورشات والمصانع والمحطات والمطارات، ويقصدوها الباعة المتجولون.
تلاميذ المدارس الجزائرية.. مهددون بالسرطان وعدم القابلية للتعليم ويعتبر الأطفال الأكثر عرضة لمخاطر التلوث البيئي الضجيجي، حيث قال البروفسور مصطفى خياطي، أن ضجيج المدن الجزائرية، تعدى 55ديسيبل داخل البيوت حيث كان وراء تزايد حالات الإصابة بنقص السمع وسط شريحة الصغار، وهو ما ينعكس سلبا على تعليمهم، وعدم التركيز مع الدروس. ويرى أن اغلب المدارس اليوم، تقع في محيط تعلو فيه الأصوات ويكثر فيه ضجيج آلات البناء والرم وورشات الصناعة، وأشار إلى أن هناك جوانب نفسية تؤثر على التلاميذ، وتظهر في سلوكهم. وقال البروفسور خياطي، أن الأطفال مع مرور الوقت يصبحون عرضة للصداع النصفي"الشقيقة"، وارتفاع نسبة الكليسترول في الدم، والإصابة بأمراض سرطانية. أن تأثير الضجيج على الأطفال يزداد مساءً وبالأخص لدى الأطفال الذين يرتفع مستوى الضجيج الذي يتسلل إلى غرفهم إلى 55 ديسيبل. يؤكد البروفسور مصطفى خياطي، رئيس الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث"فورام"، أن دراسة قامت بها الهيئة سابقا، بينت أن التلاميذ الذين يعيشون في مناطق كثافة سكانية تنتشر فيها، الضوضاء، ويدرسون في مدارس، تقع في نفس المحيط، يعانون عدم القابلية للتعليم نتيجة ضعف التركيز. ومن جهته، قال البروفسور سليم نافتي، رئيس مصلحة الأمراض التنفسية بمستشفى مصطفى باشا، إن 20بالمائة من الأمراض التنفسية تصيب أطفالا يقطنون في بيئة تعج بالضجيج، وتقع بالقرب من ورشات البناء والمصانع ومحطات النقل، مؤكدا أن الضوضاء تهدد هذه الفئة، بالربو وقلة المناعة.
الفضاء العمومي غير منسجم..والهدوء خارج الاهتمام الأخلاق! وبالنظر إلى حدة الضجيج الذي تسببه وسائل النقل وآلات الحفل، وشاحنات المؤسسات العمومية، فإن الضجيج الاجتماعي الناجم عن قلة الوعي واللامبالاة من طرف الجزائريين، والذي يرجعه، الدكتور يوسف حنطابلي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر، إلى فقدان رمزية الفضاء العمومي عند هؤلاء، وعدم تحديد المسؤولية وتطبيق القوانين الرادعة. يقول حنطابلي، إن الضجيج العلني من طرف الباعة وسائقي السيارات والدراجات النارية ليلا، ومقيمين الأعراس والأفراح بالألعاب النارية، يعود لنقص الوازع الأخلاقي والتربية في الأسرة، حيث أصبح الجزائريون يتحركون في الفضاء دون الشعور بضوابطه. وأوضح، أن العلاقة بين الجزائري والفضاء العمومي غير منسجمة، وان المدينة لم تعد مراعاة أخلاقية وقواعد عيش تحكمها الأخلاق والقوانين. ويرى الأستاذ يوسف حنطابلي، أن الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية، أدت إلى تراكمات في نفسية الشباب، حيث أصبح يصرخ ويحدث الضجيج لإخراج كبت، لم يجد مرافق ترفيهية وثقافية للتخلص منه.
الإخلال بالنظام العام تقتصر على مناوشات السكر العلني فقط! وأكد محامون في تصريح للشروق، أن المادة 442مكرر من قسم المخالفات في القانون العقوبات الجزائري، تعاقب بغرامة مالية قد تتعدى ألف دج لكل متسبب لفوضى وضوضاء، وقال المحامي إبراهيم بهلولي، أستاذ بكلية الحقوق ببن عكنون، إن تطبيق هذه المادة في الجزائر يقتصر في الغالب على بعض المناوشات والشجارات والتي تكون متبوعة بشكاوي من طرف الجيران، أو على حالات السكر العلني، وأن ضجيج الأعراس وأبواق المركبات والدرجات النارية، وآلات الأشغال المنزلية، وغيرها من التصرفات التي تثير الضوضاء، لم تعد محل اهتمام السلطات. وأوضح، أن استعمال المنبهات وبعض الأصوات، قد يتم توقيف أصحابها على مستوى السدود الأمنية. ويرى المحامي لدى المحكمة العليا خالد برغل أن اللوائح والأنظمة الموجودة لا يعار لها الاهتمام من طرف المواطن والسلطات، موضحا أن الإخلال بالنظام العام يستدعي القضاء على الصخب رغم أن تحقيق السكينة يكاد يكون امرأ مستحيلا بسبب اعتياد الجزائريين على الفوضى والضجيج. أشار في سياق ذلك، إلى أن المحاكم الجزائري شهدت قضايا اعتداءات وقتل كان ورائها شجارات حول ضجيج أبواق السيارات والدرجات النارية أو الأعراس. ودعا في السياق، نائب رئيس الاتحادية الوطنية لموظفي الصحة العمومية، خميس علي، إلى تطبيق مرسوم تحقيق السكينة العمومية، وتفعيل القانون من طرف وزارة الداخلية، لما نجم من أمراض عضوية وقلق نفسي جراء التلوث الضوضائي الذي بات يزعج المرضى حتى في المستشفيات العمومية.
مشاريع في الأفق.. وتقنيات حديثة في مدن جديد وفي انتظار التطبيق الصارم للقوانين الرادعة للفوضى والضجيج، تسعى الدولة لتحقيق السكينة في الأحياء الجديدة، من خلال اعتماد تقنيات حديثة في البناء مع توفير مساحات خضراء وأماكن للعب الأطفال يمتص فيها الصخب، وهذا ما وقفت عليه الشروق في بعض الأحياء السكنية الجديدة في الجزائر العاصمة، والتي تدخل في إطار سكنات عدل والسكن الترقوي. وأكد رئيس الجمعية العامة للمقاولين الجزائريين، ميلود خلوفي، للشروق، أن المشاريع السكنية الجديدة في الجزائر، خاصة المتعلقة بسكنات "عدل" و"الترقوي"، اعتمدت فيها مكاليزمات العزل الصوتي، عن طريق دعامات وألواح رقيقة بين شقق العمارة، وأبواب خاصة تخفف من التلوث الصوتي. وقال إن مواقع المشاريع السكنية الخاصة بالترقوي، خضعت لدراسات متكاملة قبل انجاز مخطط البناء.