في البدء، يجب أن نعترف أن أكثر الغربيين لا يتولون المسؤوليات إلا بوسائل شريفة، وطرق نظيفة وذلك بعد أعمال أنجزوها، أو انتخابات أجروها لاشية فيها، ولا شبهة عليها.. ولذلك تراهم في مواقع مسؤولياتهم يجتهدون لكي يكونوا أهلا للقيام بتلك المسؤوليات، ويحرصون على أن يتركوا فيها آثارا طيبة، وأعمالا إيجابية، تخلدهم في التاريخ. وأما عندنا نحن المسلمين عموما والجزائريين خصوصا فالعكس في الغالب هو الملاحظ؛ ذلك أن أكثر المسؤولين عندنا يصلون إلى مواقع المسؤولية بأقذر الوسائل، وأخبث الأساليب، ولذلك فهم لا يحرصون على شيء في تلك المواقع إلا على تحصيل أكبر قدر من المغانم والمكاسب، وعلى إرضاء من أوصلهم إلى تلك المواقع بأنواع شتى من التملق، والنفاق، لتطول أيامهم فيها، وتكثر مغانمهم منها، وعذرا على عدم ذكر الأسماء، لأن في ذكرها تلويثا للبيئة، لروائحها الخبيثة. منصب "البابا" هو أرفع منصب ديني عند الغربيين، ولكن له تأثير معنوي في القضايا السياسية، ويتجلى هذا التأثير، في هذه الفترة، في رفض "البابا" انضمام تركيا للاتحاد الأوربي، لأن هذا الاتحاد في اعتبار البابا هو اتحاد مسيحي. وقد وجد بعض السياسيين الأوربيين المعارضين لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي؛ وجدوا في موقف البابا سندا معنويا كبيرا يجادلون به عن موقفهم الديني المغلف بالسياسة ومما يدل على حرص المسؤولين الغربيين على أداء مهماتهم على أحسن وجه، وعلى خدمة أقوامهم أفضل خدمة، وعلى حماية مستقبل أوطانهم أكبر حماية، مما يدل على ذلك ما صدر، منذ فترة قصيرة، عن "البابا" بِنِيدِكْت السادس عشر من آراء تدلّ على أن قلبه على قومه، وأنه مهموم بمصير دينه، وأن عمله مشغول بكيفية المحافظة على دينة وقومه. إنّ ما صدر عن "البابا" بنيدكت السادس عشر هو كتاب وضعه بالاشتراك مع السياسي الإيطالي البارز "مارسيلٌو بيرا" (Marcello Pera)، وهذا تأكيد لما ردّدناه عدة مرات من أن مقولة "مالله لله، وما لقيصر لقيصر" هي ذرّ لرماد في أعين الأغرار منا.. الذين صدّقوها، وطبّقوها لغبائهم في العالم الإسلامي، تحقيقا لمآرب، وطمعا في مكاسب. إن العنوان الذي اختاره "مبارك" (❊) وصاحبه لكتابهما هو "بلا جذور"، وقد نشر في سنة 2006. وهو يتناول أربعة موضوعات هي: "الغرب، النسبية، المسيحية، الإسلام". يؤكد "البابا" أن هناك ثلاثة أخطار كبرى تهدّد أوربا في القرن الواحد والعشرين، وهذه الأخطار هي: 1) النقص الديمغرافي في غالبية الدول الأوربية، حتى إن بعض الدارفين يتوقعون زوال بعض شعوب دول أوربية مع نهاية هذا القرن، "وفي أحسن الأحوال والتكهنات تصبح هذه الشعوب أقلية داخل دولها". 2)هجرة العناصر غير المسيحية إلى الدول الأوربية لتعويض ذلك النقص الديموغرافي، وإلا توقفت الحياة الاقتصادية.. ولو كانت هذه الهجرة من أناس غير "مسلمين" لما أهمّت "قداسته"، ولما شغلت بالَه؛ ولكن الأمر الذي يقضّ مضجع "البابا"، ويُطيرُ النوم من عينيه، ويطيل أرقه وسُهاده هو أن هذه الهجرة مصدرها دول "إسلامية".. "الأمر الذي يفتح الباب لاحتمال أن تصبح أوربا مستقبلا جزءا من دار الإسلام". 3) تراجع المسيحية في الدول الغربية.. ولو أن المسيحية تراجعت لفائدة الفلسفات الوضعية والمذاهب الاجتماعية الغربية لكان قلق البابا أقل، ولكان همّه أخف؛ ولكن هذا التراجع المسيحي سيكون لفائدة الإسلام. إن البابا لم يكن شجاعا ليشير إلى سبب تراجع المسيحية، الذي هو بالدرجة الأولى عدم عقلانيتها، وعدم واقعيتها، وبالتالي عدم ملاءمتها لاحتياجات الإنسان المادية وأشواقه الروحية.. وإذا كان الناس قد قبلوها في الماضي فلأن الجهل كان مسيطرا عليهم؛ أما وقد انتشر العلم، وشاعت المعارف فقد أعرض الناس عنها لأنهم تأكدوا من أنها "دين غير معقول" كما يقول القديس أوغسطين، وأنها "اعتقاد زائف" كما يقول كارل هاينز دبشز وأن التخلص من المسيحية "تَنْوير دينيّ" كما يقول هيرمان لببيه، فلم يبق أمامهم إلا الإسلام "دين اليقين والتوازن" كما يقول فريتجوف شيون، ولهذا قال الشاعر والكاتب الألماني الشهير جُوته في رسالة بعثها إلى صديقه فيلمر في 29 يوليو 1816: "إن الإسلام هو "الراي الذي سنقرّ به نحن جميعا إن عاجلا أو آجلا (1)"، لأنه دين منطقي غير خرافي، واقعي غير خيالي، مرن غير متحجر، وهذه عناصر قوته التي قال عنها المستشرق (و. ر. و جاردنر): "إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوربا (2)". إن عدم عقلانية المسيحية وعدم واقعيتها أوقعها في "مأزق" كما وضح ذلك العالم اللاهوتي، الدكتور جُوتفرايد كونزلن في كتابه "مأزق المسيحية والعلمانية في أوربا"، لأنهما "المسيحية" وما سمّاه "الدين العلماني" لم يحققا للإنسان لا الاستقرار النفسي، ولا الاطمئنان القلبي، ولا الاقتناع العقلي، ولا الإرواء الروحي.. كان الغربيون إلى عهد قريب، يتلقون معارفهم عن الإسلام عن طريق من يسمونهم "رجال الدين"، وعن طريق المستشرقين، وكل هؤلاء إما جاهلون بالإسلام أو حاقدون عليه "حسدا من عند أنفسهم"، فشوّهُوا حقيقته، ونفّروا منه.. وعندما احتك الأوربيون بالمسلمين كان هؤلاء الأخيرون جهلة، توجّهوا إلى أوربا بحثا عن لقمة العيش التي حرمهم منها في أوطانهم المستعمرون الأوربيون، ولكن الأوربيين الآن تحرّروا من سيطرة رجال الدين والمستشرقين، وصاروا قادرين على الاطلاع على مصادر الإسلام الصحيحة كما كان لوجود علماء مسلمين في شتى الاختصاصات في أوربا أثر هام في تعرّف الأوربيين على الإسلام الصحيح فأقبلوا عليه واعتنقوه عن اقتناع وعن نية، وهذا ما يُرعب "البابا" ومن على ملته، وذلك لأنهم يستطيعون سنّ ما شاءوا من قوانين لمنع الهجرة، خاصة من البلدان "الإسلامية"، ويستطيعون أن يتطرفوا فيطردوا جميع المغتربين من البلدان "الإسلامية"؛ ولكن ماذا يفعلون مع الأوربيين الذين أسلموا وجوههم لله، واعتنقوا الدين الإسلامي، "دين اليقين والتوازن"؟ ندعو الله عز وجل أن يشرح صدر "البابا" للإسلام، وأن يزيح عن عقله ماران عليه من أوهام، وأن ينيره بالإسلام، ولو عرف "البابا" الإسلام حقيقة لصار من دعاته، ولما شن عليه هذه الحرب، وأشاع عنه هذا الإفك المبين، الذي ما عاد ينطلي على أبسط الناس. ❊ معنى اسم بنيدكت هو "مُبارك". 1) كاتارينا مومزن: جُوتَه والعالم العربي. تعريب: عدنان عباس. عالم المعرفة. الكويت. فبراير 1995 ص 223. 2) فائز صالح اللهيبي: إشكالية الخوف من الإسلام. ص 74 ❊ يتوقف الأستاذ الحسني عن الكتابة طيلة شهر أغسطس بسبب العطلة، وسيعود إن شاء الله لقرائه في شهر سبتمبر.