تصوير: يونس أوبعييش كانت الساعة تشير إلى تمام العاشرة صباحا عندما دخلنا مقر الجاحظية الذي فتح أبوابه في التاسعة صباحا كعادته، وكأن عمي الطاهر موجود..فتحت الباب فسمعت تلاوة القرآن بصوت الشيخ المنشاوي فاعترتني قشعريرة، ازدادت عندما شممت رائحة الموت، وهي تمارس سلطتها على المكان، ستة أيام بعد رحيل صاحب المكان..وبخطى متثاقلة رحت أتأمل تركة عمي الطاهر، وأنا أمشي في الرواق المؤدي إلى مكتبه العتيق، قبل أن يستوقفني سجل التعازي، فجلست ودوّنت بصعوبة باسم "الشروق" وباسمي بعض الكلمات التي تنتصر لحياة عمي الطاهر ولمشواره الثري بالنضال. تجولت في أرجاء الجاحظية، بدءا بالنادي ثم قاعة المحاضرات التي تحمل جدرانها لوحات فنية منها واحدة لفقيد الثقافة، ومررت نظري على الطابق العلوي الذي كان عمي الطاهر ينتظر أن يكتمل ليضاف إلى رصيد إنجازات الجاحظية، بعدها وقع نظري على المكتبة التي تزينت بكتب في شتى ميادين الفكر والثقافة والفن، وما لفت انتباهي هو عدد الكتب التي نشرتها الجاحظية لكتاب ومبدعين شباب كانت إطلالتهم الأولى من هذا المكان وعلى يدي صاحب البيري. دخلت مكتب عمي الطاهر..كانت رائحته طاغية في المكان وانهمرت صور كثيرة في مخيلتي، لكن واحدة منها استقرت أمام عيني وهي يوم استقبلني خريف 2007 واستقبل كتابي عن الشيخ محمد الشبوكي صاحب نشيد "جزائرنا" بكل حب واحترام، وتكفل بنشره، ثم تذكرت يوم أهداني خريطة تعود إلى بدايات القرن الماضي تتضمن القبائل والأعراش بمنطقة أوراس النمامشة ومنطقة الحراكتة وحدثني طويلا عن الصراع الذي كان بينهما. "عندما دخلت اليوم انتظرت أن أجده كالعادة لكن.." وأنا أغرق في استذكار بعض المواقف التي جمعتني بالفقيد الغالي، تنبهت إلى أني أمام سكرتيرته آمال آكلي التي كان الحزن باديا على وجهها..وكان ظاهرا أنها مازالت لم تستوعب فكرة رحيل عمي الطاهر، سألتها "كيف كانت الجاحظية يومين بعد رحيل عمي الطاهر"، فسبقتها دموعها كلامها "لقد رحل رئيس الجاحظية الذي أعتبره والدي وتركنا يتامى، وهذا المكان من دونه تنقصه أشياء كثيرة لا يمكن أن يبثها سوى الفقيد.. كان يحب عمله بشكل خرافي، وكنا نخافه، لكننا نحبه ونحب خوفنا منه، هي المفارقة التي أقف عندها في هذه اللحظات.. كان حنونا وعطوفا سعى دائما لتعليمنا، وكان يقول لي دائما "أحب في هذه الدنيا ابنتي سليمة والجاحظية" ..كنا نسمع الكثير من القيل والقال من أشخاص كانوا لا يحبونه، لكننا متمسكين به واليوم بعد رحيله نجدهم يتوددون.." "عندما جاء إلى الجاحظية آخر مرة ودعها وهو يركب سيارته" من جهتها قالت السكرتيرة الثانية لعمي الطاهر ومحياها تغشاه علامات الحزن "كان عمي الطاهر رجلا حنونا، كان كوالدي عملت معه طيلة 03 سنوات كاملة، تعلمت فيها على يديه الكثير من الأشياء.. طيلة فترة مرضه، كان يهاتفنا ونهاتفه يوميا، وكأنه موجود بيننا، يوجهنا وينصحنا ويقسو علينا أحيانا، لكنه يعود ليعطف علينا.. وأثناء مرضه كان يحاول دائما أن يكون قويا، وكان يتمنى أن يحضر نشاطات الجاحظية في أيامه الأخيرة، لكن الصورة التي لا يمكن أن تمحى من مخيلتي هي عندما جاء آخر مرة إلى الجاحظية، تجول في كل مكان فيها وكان يتأمل بعمق كل زواياها، وعندما غادر وقبل أن يركب سيارته ودع الجاحظية وكانت نظراته توحي بأنها المرة الأخيرة التي تطأ فيها أقدامه المكان..الله يرحمو". "يعلمك فكرة كبيرة بموقف بسيط" عندما خرجت من المكتب صادفت أحد أعضاء مكتب الجاحظية وهو الأستاذ محمد دين، الذي كانت عيناه مليئتان بالدموع، وهو يسمع لصوت المقرئ، تقدمت منه وسألته عن الفاجعة فقال:"رحيل سي الطاهر ترك فراغا رهيبا لا يعوض، خاصة بالنسبة لي، فهو صديقي منذ سنوات الستينيات حين تعرفت عليه بواسطة صديق كان يقدم برنامجا إذاعيا، وتعرفت عليه أكثر في الشعب الثقافي وتوطدت صداقتنا خلال نضالنا المشترك في الجاحظية..سي الطاهر عندما يصادق شخصا يزيل كل الحدود، ويصبح ذلك الشخص واحدا من عائلته، وأذكر أنه عندما ضاقت بالمثقفين سنوات الثمانينات لم يجدوا من مأوى سوى بيت "سي الطاهر".. لقد كان رجلا يجمع بين الفكر والفن ويستطيع أن يعلمك فكرة كبيرة بموقف بسيط، أدعو له بالرحمة وأكبر وفاء له هو الحفاظ على الجاحظية التي تعب كثيرا حتى جعلها منارة ثقافية لأكثر من عقدين." كان محبا للمثقفين والصحفيين الشباب عندما رأيت عمي السعيد القائم على نادي الجاحظية تبادر إلى سمعي صوت عمي الطاهر رحمه الله وهو يناديه "يا السعيد جيب أتيات".. سألته ماذا بعد رحيل عمي الطاهر فقال "عملت معه طيلة 11 سنة، كان إنسانا خلوقا صريحا كريما، يفرض الاحترام على الجميع مهما كانت درجاتهم، كان يوميا يأتي إلى الجاحظية في السابعة صباحا ولا يغادرها إلا بعد الرابعة مساء..كان بسيطا معنا ومع الجميع، وكان يحب المثقفين والصحفيين، وأكبر شيء أثر في قبل وفاته يوم جاء إلى الجاحظية، كان باديا عليه أنه يودعها..أنا متأكد أنه من سيخلف عمي الطاهر سيسير على نهجه لأن الجاحظية مؤسسة وليست مجرد جمعية." عندما أردت الخروج من باب الجاحظية وقع نظري على مجلة "التبيين"، فتساءلت:"من سيكتب افتتاحية كالتي كان يكتبها عمي الطاهر بروحه الطاهرة المحبة للثقافة والإبداع وبنفس مبادئه وقوته في قول ما لا يقال؟"