الحلقة 26 سادس الشيوخ، العلاّمة الأصولي الأستاذ بلقاسم بلخضر، صاحب العينين الزرقاوين الحادتين، درست عليه أصول الفقه، ومن مميزاته الشخصية أنه لا يضحك أبدا، وقد درست عليه عامين ولم أر على ثغره ابتسامة، ولم أره خلال هذه المدة تحدث إلى طالب إلا أثناء الدرس، ومن هنا كنا نهابه، ولا نسأله إلا عند الضرورة ! * ألقيت درسا تمرينيا بين يديه، وكنت متفوقا فيه أسلوبا وتركيزا ونقدا وإحاطة، وكنت أعتقد أنني سأنتزع منه كلمة إعجاب وتقدير، بيد أنّي لم أنتزع منه إلا كلمة (أحسنت) قالها في تثاقل كأنه قَدَّها من صخر! وسابع الشيوخ، الشيخ ساكيسْ . درست عليه النحو، وكان فصيحا بليغا، يهتم بمادته غاية الاهتمام، ويحرص كل الحرص على إفادة طلبته، ولكنه كان يعاني بعض الأمراض، وكان يقول : أذْواني المرض والعلل وأنا أعيش بالأدوية، وأتّجه إلى الوراء لأتذكر ولا أتجه إلى الأمام لآمل . وكان يُقدّرني لاهتمامي بدرسه وبالقواعد العربية والنحو خاصة، وقد حرصتُ على أن أبقى معه غالبا دقائق بعد انتهاء الدرس، فقال لي ذات يوم أتذكَّر بصنيعك هذا ما كنت أصنعه مع شيخي في الأدب فأترحم عليه وأشكرك أنت. وكثيرا ما كانت للشيخ في هذه الدقائق نفحات من الإلهام أيقظت روافد القريحة الموهوبة، فأنال فيها ما لم أنله في ساعة الدرس ! وثامن الشيوخ الأديب الكبير والشاعر العبقري الملهم الشيخ بوشربية، وقبل المضي في الحديث عن هذا الرجل أسجل للتاريخ أنني مدين بالفضل فيما نلته في الأدب العربي لأديبين كبيرين هما مفخرتا المغرب العربي في ذلك العهد، ومن عناوينه العريضة البارزة المتألقة التي تشعُّ على الفكر الأدبي في هذا الجزء من العالم العربي، أحدهما هذا الأديب الشاعر، وثانيهما الأستاذ مختار الوزير الذي تقدم في هذه الومضات . والأستاذ بوشربية قد كتبت عنه في جريدة (المنار) وجريدة (البصائر) إثر وفاته في حادث سيارة في شهر جويلية سنة 1952، ثم أدرجته -في شيء من الإفاضة- في كتابي (أعلام من المغرب العربي) الذي أعود إليه في هذه الكلمة. كنت صغيرا عندما سمعت عنه، وكان ذلك في إحدى ليالي الصيف عندما كان طالب زيتوني يتحدث في وليمة أحد أقاربي إلى جماعة من المتعطشين إلى الثقافة العربية عن الجامعة الزيتونية وعن علمائها وأدبائها، وركّز الحديث بالخصوص على هذا الشاعر المبدع الذي قال عنه بالخصوص ما معناه : لولاه وأمثاله من العباقرة الملهمين لفقدت الحياة رونقها ومعناها، وقد علّق بحافظتي مطلع قصيدته النونية التي مدح بها الرسول صلى الله عليه وسلم ومن إنشاد هذا الطالب لها : نورُ النبوّة ساطع البرهان غمر النُّهى فانحطَّ عنه بياني وأصبح أملي منذ ذلك اليوم أن أدرس الأدب على هذا الأستاذ العبقري إن سنحت لي الفرصة بالذهاب إلى جامع الزيتونة . ولما ذهبت إلى تونس للدراسة بهذه الجامعة كان أول شيء قمت به بعد الانتهاء من الإجراءات الرسمية الإدارية هو الاتصال بالأستاذ، وما أزال أذكر ثناءه الجمَّ على الجزائريين الذين قال عنهم يأتون تونس لأخذ العلم لا للشهادات! ولقد تحقق أملي فأصبحت أحد تلامذته الذين يفخر بهم ويعتز، ولما أصدرت هيئة الطالب الزيتوني جريدة (صوت الطالب) وكنت من محرريها كان الشيخ الشاعر يتابع باهتمام ما ينشر لي فيها، ويحثُّني على مواصلة الكتابة والعناية الزائدة بما أنشر، لأن ذلك -على حد تعبيره- صورة الكاتب ووجهه . وكان يقول كلَّما تحدثنا عن الكتابة، أو نقد مقالة من مقالاتي ما معناه : لا يستطيع الكاتب أن يؤثر في نفوس قرائه إلا إذا كانت واضحة مفهومة، فالوضوح هو جوهر الشعر والنثر، بل هو جوهر الجمال، والجمال والغموض نقيضان لا يجتمعان ! وفي السنة الأخيرة من دراستي ألَّفت كتابا في الأدب سمَّيته ( أُدباء التحصيل ) قدمته إليه، وكان مفاجأة سارة قال إنه لا ينساها . أما حلقته في الدرس فتغشاها القلوب قبل الأبدان، فكل طالب زيتوني ارتقى في دراسته تمنَّى أن يكون طالب أدب فيها، لمنهاجيته المتميزة، وأسلوبه في الإلقاء، وطريقته في مخاطبته المشاعر والأحاسيس . ودرست عليه ثلاثة أعوام، وكان ضنينا بالنقطة، فالمحظوظ من ينال عنده ثلاث عشرة، وقد أخذت ست عشرة، وكان ذلك -كما قال هو- حدثا تاريخيا لا ينسى، وليس في الأمر عجب إذا بحثت. فقد كنت أهتم بالأدب اهتماما لا حدَّ له، أقرأ كل كتاب قيم تحويه مكتبة، أو أستعيره من مالكه فألخصه، ومن ثمَّ لخّصت عشرات الكتب في الأدب ! وفي السنة النهائية اتصل حزب الشعب في الجزائر، برئيس الطلبة الجزائريينبتونس وطلب منه أن يختار من الطلبة الجزائريين الذين يستعدون لأهل شهادة التحصيل عشرة تخصص لهم وقتا لدراسة الأدب على أرقى أستاذ في الجامعة، فكنت من العشرة، الذين اختارتهم لدراسة الأدب، واختارت مفخرة الزيتونة الشيخ محمد بوشربية لهذه المهمة، وكان الدرس يوم الخميس نبدؤه على الثانية بعد الزوال ويستمر بلا انقطاع -إلا للضرورة- حتى التاسعة ليلا وتشتمل الجلسة على درس يلقيه الأستاذ، ومحاضرة يلقيها الطالب، بعد الاستعداد لها في نصف ساعة، ومناقشة في نص أدبيّ يختاره الأستاذ بوشربية ساعة، ومقال يحرر في الجلسة . وقد استمر هذا العمل المكثَّف المُرهق قرابة شهرين، ثم أخذ الطلبة يتسللون لِواذًا ويتخلّفون عن هذه الجلسة حتى لم يبق فيها إلا اثنان، أنا وطالب آخر هو المرحوم الشيخ محمد أمزيان الثعالبي، ولم تنته هذه السنة الخاصة حتى أوشكنا على الانتهاء، فكلما حضرت هذه الجلسة -مع ما فيها من علم وأدب غزيرين متميزين- ارتعنا وتوقعنا النهاية، لطولها، وكثرة موادها، وكثرة المفاجآت فيها، فلو كان درسا فقط أو محاضرة فحسب لهان الأمر، ولكن سبع ساعات نقضيها بلا توقف، وكل ما في الجسم في شغل وحركة دون راحة: الفكر، واليد، واللسان، والمشاعر والأحاسيس، ولكن النتيجة آخر السنة كان نجاحا بتفوق، وكان أيضا ما صاغه الفكر وخطَّه القلم من عشرات الكتب ومئات الأبحاث والدراسات خلال نصف قرن وأكثر، ولله المنّة والحمد! ولأبي شربية -وأمثاله- الرحمة والرضوان. الإمام ابن عاشور يتفقد المدرسين في جامع الزيتونة في أول زيارة عقدها الإمام الشيخ الطاهر ابن عاشور شيخ جامع الزيتونة إلى حلقات الجامع للتفقد، بعد أيام من انتظامي في سلك الزيتونة، عرفت من هو هذا العالم المفسّر الذي طبقت شهرته الآفاق، وقد كنت قبل ذلك أسمع عنه الكثير، وأتمنى أن أراه! ليست العبقرية في حقيقتها إلا الفكر الصانع، والعمل الدائب، والجهد المُضني، والصبر الجميل، هكذا يتحدث عنه الطلبة التونسيون، وبهذه الأوصاف كانوا يصفونه، ومن أجل ذلك اشتقت إلى رؤيته، حتى أرى هذه العبقرية! إن الشيخ عندما يدخل من باب الجامع يسبقه شخص يحمل نعليه في يده، فإذا رأى الطلبة هذا الشخص علموا أن الشيخ وراءه، فيغمر الجامع صمت رهيب، فيدخل الشيخ، كأنه غمامة بيضاء، أو قطعة ثلج، فيقف على بعض الحلق، ويستمع لحظات إلى المدرّس، ثم ينتقل إلى أخرى ليستمع كذلك، وقد سأل أحد الطلبة يوما أستاذه عن شعوره وحاله عندما يقف الشيخ أمامه هذه الوقفة، فأجابه : بأن شعوره واحد رغم تكرر هذه الوقفة عدة سنوات : هو الشعور بالرهبة والجلال ! عندما رأيته في أول زيارة للجامع منذ أن بدأتُ الدراسةَ فيه، تذكّرت أحد طلبة هذا العملاق الشيخ عبد الحميد ابن باديس المصلح المجدّد، وتذكّرت المعركة العلمية التي شبَّت بينهما، ومرَّ بذاكرتي ما قاله فيه أحد شعراء تونس: واقتدوا بالشيخ في سيرته سيْرَ حزمٍ رغَبًا أو رهَبا فهو شيخ شبَّ في مشروعه كان خيرَ ابنٍ وللأَبنا أبَا شيخنا الطاهر في مقصده يا ابن عاشورَ وُقيتم حَرَبَا ثم تكررت الرؤى واستمَعت إليه وهو يخطب غير مرّة، فهل رأيت سبحان؟ إنه هو ! وفاة المناضل الدكتور الحكيم شريف سعدان عندما توفي السياسي المحنَّك الكبير شريف سعدان في شهر نوفمبر 1949، وكان موته نكبةً كبيرةً على الجزائر، ورزءًا من الرزايا الكبيرة التي برزت في حياتها وهزَّتها من أعماقها، وقد جاء الطلبةَ الجزائريين نعبه فتأثروا بالغ التأثر وبكوه أحر البكاء، وجاءنا البصائر وقرأنا ما كتب عنه، وما كتبه بالخصوص الشيخ محمد خير الدين، مستشهدا فيه بقول الشاعر العربي : لعمرك ما الرزيةُ فقدُ مالٍ ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقدُ حُرٍّ يموت بموته بشر كثير ولا أنسى وجوه الطلبة الجزائريين في تلك الأيام، فقد كانت تعكس آثار الفاجعة في النفوس، وما اجتمع اثنان إلا وكان الحديث عن الراحل هو الجامع ! ولكي يعرف القارئ الكريم من هو هذا الرجل علمًا وثقافةً، ووطنية وجهادًا، وحبًّا للجزائر، وسعيا في سبيل تحريرها، أذكر له ما قاله لي صديقه المرحوم الأستاذ علي مرحوم، من أن إحدى الأخوات البيض في مستشفى (لافيجري) ببسكرة قالت له يوما: " إني معجبة بعبقرية هذا الطبيب ( سعدان ) وكم أتمنى لو كان مسيحيًا ".