تريدون أن تعرفوا ما الذي يحدث ببيروت تحديدا؟ لن تكفيكم كل المعلومات التي تنقلها الفضائيات.. هذه مشاهدات سائحٍ تحوّل إلى مراسل حرب ووجد نفسه لساعات في أحضان القصف الإسرائيلي. مبعوث الشروق الى لبنان: أبو طالب شبوب كنا موعودين بأكثر من عشرة أيّام لا تنسى بعاصمة الجن والملائكة العربية .. بيروت. هذه كانت خطتنا، وفعلا، خلال ثلاثة أيّام من الحياة ببيروت لم يكن على الأرض أسعد من فريق سيّاح جزائريّين، لاقوا كل الترحاب والحفاوة، وكان لنا أن نشاهد كيف أن 3 ملايين سائح عربي بلبنان يشاركوننا نفس المشاعر، ولا ينفكون عن التنقل بين مهرجان، ففيروز تغني ب"مهرجان بعلبك" وتلميذات شجرة الأرز تغنين ب"مهرجان بيت الدين". أسير وسبعة قتلى... وتنتهي العطلة تماما بوسط الأسبوع، قرّر زعيم حزب الله، السيد حسن نصر الله، أن الوقت قد حان لوضع وعده بتحرير أسرى لبنان من براثن إسرائيل قيد التنفيذ، وفي عملية خاطفة، ضرب الحزب شمال المستوطنات الإسرائيلية، في مناورة سمحت بشغل جنود الاحتلال عما كان يجري بقرية "عيتا الشعب"، حيث قام مقاتلو الحزب الإسلامي باختراق حدود "الخط الأزرق" نحو الجنوب، فدمّروا موقعًا عسكريًا بالكامل وأسروا جنديين وقتلوا سبعة جنود. في اللحظات الأولى للحادث، بدا لبنان غير مصدق لما حدث، بل وانخرط بعض أفراد شعبه في فرحة ساذجة بالعملية البطولية، كل الذي كان الجميع يتوقعوه هو غضب إعلامي إسرائيلي أو على الأكثر بضعة ضربات متفرقة، ثم يتم تفعيل دبلوماسية الوسطاء لتحرير متبادل للأسرى من الطرفين، لكن الذي حدث هو أن إسرائيل بالكامل اهتزت وضربت بجنون لم يكن متوقّعا، وماج مجلس الوزراء الإسرائيلي وهاج أولمرت، وفيما كان نصر الله يفتح فاه بابتسامة عريضة، قائلا إنه قد حقق وعده بخطف جنود إسرائيليين، فإن إسرائيل كانت تحرث الجنوب اللبناني بطائراتها حرثًا وترسل بمجموعة دبابات عبر حدود الخط الأزرق لاستعادة الأسيرين بالقوة. "على هدير البوطسة....كانت نقلتنا" لم نكن نعلم شيئا، كنا نتجوّل بأعالي منطقة "جبيل" الساحلية، متنقلين بين الأحراش وآثار الميناء الروماني، على أنغام رائعة السيدة فيروز /على هدير البوسطة/ كانت نقلتنا... وتذكرتك يا عاليا، / وتذكرت عيونك/يخرب بيت عيونك يا عالية... شو حلوة". ولكن بمجرّد عودتنا إلى الفندق، علمنا أن إسرائيل قد قصفت مطار "رفيق الحريري" لثاني مرّة، وأعلنت أن "لبنان كلها أسيرة لدى الجيش الإسرائيلي" حتى عودة جنديها المختطفين، وواقعيًا كان معنى هذا الكلام هو أن جميع مدارج مطار بيروت الدولي قد ضربت، أضيف إلى ذلك تدمير ثلاثة مطارات محلية وحوصرت السواحل اللبنانية، كما ضرب الطريق الرسمي نحو دمشق.. باختصار: الخروج من لبنان أصبح شبه مستحيل.. في الفندق، علمنا أن لدينا 24 ساعة للمغادرة إذا أردنا الحفاظ على حياتنا، ورحنا نشاهد كيف راح زوّار فندقنا "روتانا الحازمية" يغادرونه تباعا، التهديد الذي كان مسيطرا على الجميع، هو احتمال غلق كل مخارج بيروت واضطرارهم للبقاء في وسط طاحونة جهنمية، هكذا اتصلت السفارة السعودية لتتكفل بكافة رعاياها، فيما غادر بقية الرعايا تدريجيًا، ولم يبق بالفندق سوى المغاربة والجزائريون، لأن خطة إجلائهم كانت ستطبّق غدًا لا اليوم، لعدم وجود رحلات جوية من دمشق إلى بلدانهم إلى غاية الأحد المقبل ! وما كان على رعايا البلدين الجارين سوى قرار الاحتفال بآخر عشاء بيروتي معا قبل الذهاب... قبل العشاء خرجنا إلى الضاحية الجنوبية الواقعة على مسافة 1000 متر من فندقنا، حيث يقبع تلفزيون المنار، وكذا معاقل "حزب الله"، على الطريق كل المحال كانت مغلقة والعائلات شرعت في المغادرة، بعد أن أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية أن قرار ضرب بيروت قد صار جاهزًا! آخر قطرة ماء.. في تلك الليلة، رقص الجزائريون كما لم يرقصوا من قبل، فقد كان الفندق خاليا إلا منهم ونظرائهم المغاربة، بل إنهم قرروا السباحة جماعيًا.. وظلوّا يسبحون إلى حدود الثانية صباحًا، ثم أخلدوا إلى أسِرّتهم، وبعد ذلك بحوالي نصف ساعة قُصفت "الضاحية" الواقعة أسفل فندقنا، كان الوضع رهيبًا... لمعت السماء بدخان حريق ضخم بمطار "رفيق الحريري" الدولي، ثم بحرائق منطقة الضاحية، حيث ضرب الجسر الذي كان يستعمله الرئيس لحود للذهاب من قصره إلى المطار، كما ضرب مفترق طرقها، وعدة مساكن بها على زعم أن "حزب الله" يُخفي بها صواريخ وأسلحة. ثوان بعد القصف هرعت سيارات الإسعاف إلى المنطقة لإجلاء المصابين، فيما لم تكتف طائرات إسرائيل بمهمتها التدميرية، لتعود ربع ساعة بعد ذلك في غارة وهمية، وهي غارة لا تطلق فيها أية صواريخ، لكن يتم كسر جدار الصوت ما يرفع درجة التأهب إلى أقصاها ثم ينتهي الأمر إلى لا شيء، هذا النمط من الغارات يصيب الأطفال برعب لا يتصوّر، ويحطّم أعصاب أي شخص غير معتاد على معايشة صوت القصف وطلقات الدفاع الجوّي. في الخارج، كان الكل ينتظر، لأن الحرب قد أسفرت عن وجهها أخيرًا، ولم يعد بإمكان أحد إيقافها، فإسرائيل ضربت بشكل أولي مواقع حزب الله في الجنوب، ثم وسعت نطاق القصف لكل قرى الجنوب كي يتم عزل الحزب عن محيطه الشيعي الذي لن يتحمل الجوع والبرد والنار طويلا، ثم توسّع القصف ثالثة ليشمل المؤسسات الحكومية التي أنشأها آل الحريري الحليف السني للحزب، وليس بعيدًا إذا لم ينفض شمل أنصار الحزب أن يتواصل القصف ليشمل لبنان بأسره، فقد صار واضحًا أن المطلوب هو تكفل اللبنانيّين بضمان أمن إسرائيل وعودة جندييها الأسيرين، محمّلين برأس حسن نصر الله إلى تل أبيب، وإلّا فإن المنطقة بأسرها ستدفع الثمن. الهروب الكبير إلى سوريا.. في يوم الغد، جاءنا مندوب الجهة المستضيفة لوفدنا السياحي، وقال إن علينا المغادرة إلى سوريا، لأن آخر منفذ للفرار هو على وشك الإقفال، وطبعا لم يكن أمامنا سوى الاستعداد، لكن جولة قصيرة في الضاحية الجنوبية كشفت عن مدى الأضرار التي خلّفها القصف، سواء على مستوى البنية التحتية أو على مستوى مشاعر الناس، فبالرغم من الشجاعة الكبيرة، والاحتفالات الضخمة التي دشّنها أنصار "حزب الله"، إلا أن مشاعر الناس كانت مهزوزة وكان الكل على وشك المغادرة. استقلينا الحافلة، باتّجاه منطقة "جونية" ثم "طرابلس" ف "تل عباس ف "المنية" وفي هذه الأخيرة بالضبط كنا على موعد مع مشهد غريب للغاية، طابور من المغادرين على امتداد كيلومترات، الكل يفر من الحرب المقبلة، بالدراجات النارية، بالشاحنات، بالسيارات، الكل يسير باتجاه الشمال نحو سوريا. كان المنظر مدهشًا، رعايا من كل الجنسيات، أطفال صغار، نساء، شيوخ، رجال وشباب، الكل يتوحّد في رغبة واحدة...الفرار. الجو كان محتقنا والسيارات كانت ترفع أصوات الراديو إلى الحدّ الأقصى، والجميع منقسمون بين خطابات السيد حسن نصر الله وخطابات إيهود أولمرت، هذا يهدد وذلك يتوعّد، وفي ظل شمس حارقة كان الطابور الكيلومتري يتحرّك بأقل من سرعة النملة وعلى الجانبين انتصب باعة العملات بمختلف أنواعها، وكذا باعة بعض السندويتشات، وكان المسار الطويل معرضًا لمختلف الصور الانسانية الصعبة، هذه سيدة مصرية مع زوجها وعائلتها، يصطف الكل نحو الخروج، لكن المفاجأة الأليمة أن جواز سفر الزوجة كان منتهي الصلاحية، لينهار الزوج كطفل صغير.."ما الذي أفعله؟ هل أترك زوجتي لتجدّد جواز سفرها في بيروت وأهرب بأولادي؟ من يضمن لي أن إسرائيل لن تصطادها قبل ذلك؟ هل أعود بالعائلة والزوجة لننتظر تجديد الجواز؟ من يضمن لي أن لا يقصف الأولاد وأمهم معًا؟ ثم بربكم ما معنى أن يتم رفض مغادرة الزوجة بسبب انتهاء صلاحية جواز سفرها...أجوازها هو الشيء الوحيد الذي انتهت صلاحيته؟ ألم تنتهي صلاحية العرب بدولهم ورؤسائهم؟". بقينا أكثر من 5 ساعات لإنهاء معاملات سفرنا في ناحية الحدود اللبنانية، ولزمنا أكثر من ساعتين لإنهائها على الجهة السورية، وبسبب الاكتظاظ الكبير، فقد أضيفت ساعتان أخريان ليصبح المجموع هو 9 ساعات من الانتظار على الحدود، لنصل بعد ذلك إلى مدينة حماة السورية، بعد أن قيل لنا إن كل الفنادق بين بيروت وحماة ممتلئة عن آخرها بالرعايا العرب والأجانب. وصلنا الفندق، فحمدنا الله على السلامة، فيما غرق البعض في كراسييهم بعد يوم حافل بالشمس والتعب، لكن بمجرّد الدخول إلى غرفتي، دقّ هاتف الغرفة: "آلو.. من؟" وكان الجواب "معك مدير النشر، أوّلا حمدًا لله على سلامتك، ثانيًا إحزم حقائبك وعد إلى بيروت غدًا صباحًا"..!