كشفت الطبعة التاسعة والثلاثون لمهرجان مسرح الهواة بمستغانم التي مرّ عليها بعض الوقت، أي في شهر جويلية الماضي، عن صراعات في الكواليس بين عناصر الحرس القديم (المدير الفني السابق وفريقه) ومحافظ المهرجان. حرب المواقع بين الطرفين تقف وراءها المصالح المادية بالدرجة الأولى، ولكن أيضا المصالح السياسية من خلال كراسي البرلمان وبعض المسؤوليات العليا في الدولة.. فأين الهواة وأين مسرحهم من كل ذلك؟ وهل تعصف الصراعات »العصبوية« الضيقة بالطبعة القادمة؟ تحقيق: سعيد جاب الخير يعتبر المهرجان الوطني لمسرح الهواة بمستغانم من أكبر المكاسب الثقافية الوطنية، وقد انطلق هذا المهرجان سنة 1967 بجهود مجموعة من رجال المسرح الهاوي على رأسهم سي الجيلالي بن عبد الحليم الذي طالما ناضل ضمن صفوف الكشافة الإسلامية الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي في فوج »الفلاح« الذي تفجرت فيه المواهب المسرحية للعديد من الأسماء الجزائرية التي لمع نجمها بعد ذلك، ومن بينهم على سبيل المثال لا الحصر ولد عبد الرحمن عبد القادر المدعو كاكي ومحمد شويخ. لم يكن هناك، قبل انطلاق الطبعة الأولى لمهرجان مستغانم، إطار يجمع هواة المسرح في بلادنا.. وبانطلاق هذا المهرجان، انطلقت المسيرة الفعلية للهواة الذين أصبحوا يتوافدون على مستغانم من جميع أنحاء الوطن. بإمكانات بسيطة بل تكاد تكون منعدمة، انطلق هذا المهرجان.. وقد حدثنا العديد من قدماء هذه التظاهرة من رفقاء الجيلالي بن عبد الحليم وولد عبد الرحمن كاكي من أمثال الحاج المكي بن سعيد أن الطبعات الأولى من المهرجان تميزت بقدر كبير من البساطة والارتجال في الجانب المادي بسبب النقص الكبير في الإمكانات.. وقد كان سي الجيلالي عندما يقترب موعد المهرجان ولا يتوفر لديه المبلغ المالي المطلوب، يعاود الاتصال بالبلدية ومختلف الهيئات المحلية التابعة لحزب جبهة التحرير الوطني (الحزب الوحيد المعترف به والحاكم آنذاك). وعندما تنغلق في وجهه الأبواب، ينطلق مع مجموعة من رفاقه إلى العاصمة لطلب لقاء المسؤولين في مقر الأمانة العامة للحزب.. اتصلوا ببوغابة.. ومن الطرائف التي يرويها قدماء المهرجان في هذا الصدد، أنه في مرة من المرات، كان الوفد المستغانمي في مقر الأمانة العامة للحزب بالعاصمة حيث طلبوا لقاء الأمين العام بسبب الصعوبات المالية التي واجهتهم، فقيل لهم إن هذا الأخير مشغول جدا ».. ولكن بإمكانكم أن تتحدثوا مع السي بوغابة«.. وهنا انطلق سي الجيلالي بن عبد الحليم، وكان ضمن الوفد، ببديهته المعهودة وأسلوبه المسرحي الدرامي يقول: (جينا من الغابة.. ترسلونا عند بوغابة؟؟). وهكذا كان هؤلاء الرجال الذين أداروا الطبعات الأولى من المهرجان، وبطرق شعبية تقليدية، يتمكنون من إنجاح الطبعة تلو الطبعة، حيث كان سي الجيلالي يقول لأهل المدينة وأعيانها: (عيب علينا حنا مستغانمية، إيجيو ضيافنا وما يلقاوش واش ياكلو ولا وين يباتو..) كانت تلك الكلمات القليلة في حجمها، العظيمة في مضمونها، تؤثر على أهل المدينة فيتوافدون على المنظمين فتجد كل واحد منهم يتبرع بما يستطيع، حتى لا يقال إن مستغانم تطرد ضيوفها أو لا تحسن وفادتهم.. ورغم ذلك فإن إمكانات المهرجان كانت بسيطة للغاية. مهرجان يتقدم.. ورهانات تكبر كانت الطبعات تمر وتتوالى، وكان الصغار يكبرون والتجربة تنضج.. لم تكن العروض في السنوات الأولى تقام في مسرح، بل في ملعب لكرة القدم، ولكن الحماس والموهبة اللذين كانا يشتعلان في قلوب الشباب الهاوي، كانا كافيين لإخراج أروع العروض.. ففي مثل تلك الظروف الصعبة من الناحية المادية، وعلى مثل تلك الخشبة البدائية، صعدت وأبدعت ألمع المواهب المسرحية الجزائرية، نذكر على سبيل المثال: حسن الحسني، الطيب أبو الحسن، محمد أدار، حسن بوبريوة، عمر فطموش، محمد فلاق، والقائمة طويلة جدا.. من الذين لم يكونوا ليعرفوا الطريق إلى النجومية لولا مرورهم من هذا المهرجان. ولكن مع مرور الأيام والسنين، بدأت أهمية المهرجان تتعاظم بعد أن تجاوزت سمعته الحدود الوطنية، وبدأت الرهانات في جميع أبعادها أيضا تكبر.. بدأت الدولة ممثلة في الجماعات المحلية ثم الوزارة، تخصص أغلفة مالية للمهرجان.. هذه الأغلفة التي مافتئت تكبر عاما بعد عام، لتفتح الباب لتقاليد جديدة موازية للتقاليد المسرحية، تقاليد صراعية ذات طابع سياسي مصلحي وإيديولوجي أحيانا.. نواري/ بن صابر: الحرب الخفية كان المهرجان في بداياته الأولى، من الناحية الإدارية، تحت إشراف الكشافة الإسلامية الجزائرية، قبل أن ينتقل إلى إدارة حزب جبهة التحرير الوطني من خلال إحدى منظماته الجماهيرية (الاتحاد الوطني للشبيبة الجزائرية) وما أدراك.. تلك الهيئة السياسية الشبانية الشهيرة ب»انقلاباتها« وآخرها طبعا جرى في سياق الصراع حول رئاسيات أفريل 2004.. لقد كان الاتحاد فعلا مدرسة للتدريب على (البوليتيك) الأفلاني.. وفي ظل إدارة الاتحاد للمهرجان، سيطرت الرؤية اليسارية النضالية التقليدية التي كانت (على المودة) في تلك المرحلة. ومنذ تحول المهرجان إلى جمعية بمقتضى قانون (90 / 31) ظهر على السطح ما كان خافيا على العامة، حيث نشب النزاع بين المجموعة القديمة والعناصر الجديدة الوافدة. وقد خرج هذا الغسيل الداخلي بشكل أكثر انفضاحا بعد تحول المهرجان إلى محافظة بعد أن تم ترسيمه وأصبحت ميزانيته تناهز المليار سنتيم، وهناك من يقول إنها تصل إلى مليار و500 مليون سنتيم.. هذا المبلغ يصرف مقابل ثمانية أيام من العروض المسرحية تشارك فيها ثماني فرق داخل المنافسة الرسمية وعدد آخر خارج المنافسة.. مبلغ كهذا من الطبيعي أن يسيل من أجله لعاب الكثيرين، وموقع كموقع محافظ المهرجان (الذي يتربع على عرشه اليوم النائب عن الأرندي، محمد نواري) من الطبيعي أن يثير طمع الكثيرين من الذين قد يطمحون إلى أكثر من موقع سياسي محلي أو حكومي.. من هذا الموقع، انطلق الصراع بين محافظ المهرجان ومديره الفني السابق جمال بن صابر.. ألعاب وألاعيب.. المتعارف عليه لدى المتتبعين للساحة المستغانمية، أن كل شيء يبدو على ما يرام خلال الأشهر التي تسبق المهرجان، حيث يتكاتف الجميع من أجل التحضير للتظاهرة وينسون خلافاتهم، لأنهم يعلمون جيدا أن ظهور الخلافات في تلك المرحلة، قد يهدد دخول (الفلوس) لحساب المهرجان، ما يؤول بالضرورة إلى حال، الجميع فيها سيكون خاسرا. المدير الفني السابق جمال بن صابر الذي كان قد أعلن استقالته من منصبه العام الماضي علنا أمام الصحافة، عاد هذه السنة ليوضح أنه أعلن استقالته من مهمته بعد انتهائها (ومهمته هي أرضية العمل التي أشرف على تنفيذها لخمس سنوات) ولم يستقل من محافظة المهرجان.. ومادامت هذه الأخيرة لم تستدعه للمشاركة في التحضيرات، فإنه احتفظ بحقه في قول ما لديه للصحافة بهذا الشأن. ومن الصعب في هذا السياق، أن نتصور أن أحد الطرفين يترك المجموعة المحيطة بالطرف الآخر دون اختراقها أو محاولة ذلك على الأقل. وهكذا انطلقت موجة الإشاعات والإشاعات المضادة، والتصريحات والتصريحات المضادة بعد انطلاق المهرجان.. البعض ممن لم يتعودوا على مثل هذه (القوالب) أعلنوا انسحابهم من الإدارة حتى وإن لم يجهروا بذلك أمام الملأ، وكانت هذه حال السيد الغالي كريري. والبعض الآخر لم يتحمل ثقل ما يجري من حوله من مناورات مثل، رشيد جرورو، الإطار بمديرية الثقافة وخريج معهد الفنون الدرامية ببرج الكيفان.. والصراع في مثل هذه الأجواء، معناه بذل الجهد من أجل وضع العراقيل وافتعال المشاكل على طريق التظاهرة بهدف إظهار عدم كفاءة الطاقم المشرف عليها.. حرب التصريحات.. وكشف المستور تحدث محافظ المهرجان (محمد نواري) أمام الصحافة معترفا ضمنيا بوجود الصراع الخفي الجلي الذي نتحدث عنه، وقال (هنالك صراع في كل مكان حتى داخل بيوتنا..) وهذا صحيح تماما، لأن الصراع كان فعلا داخل بيته وهو لم ينكر ذلك، غير أنه تحفظ على مناقشة التقارير التي قدمت له من طرف مديره الفني السابق، والخاصة بالطبعات السابقة، في إشارة إلى إمكانية احتوائها على ثغرات (مالية في الأغلب).. وفي هذا السياق لا يمكن إخفاء الأقاويل التي تروج في الشارع المستغانمي حول الإثراء المادي الذي حققه البعض على (ظهر) المهرجان.. وإذا كان المحافظ قد هدد ضمنيا بكشف المستور، فإن مديره الفني السابق أعلن عن استعداده للعودة إلى أحضان المهرجان في حال وجهت له الدعوة العام المقبل.. أما فتح النور بن براهم المدير السابق للجنة الإعلام، والمحسوب على مجموعة جمال بن صابر، فقد قال صراحة: (نحن أقلنا ولم نستقل، وأتحدى كل من يقول العكس، خاصة وأننا قدمنا استراتيجية عمل واضحة لمدة خمس سنوات قادمة). هل ننسى خلافاتنا أمام العرب؟ ماذا نتوقع للطبعة القادمة من المهرجان التي تتزامن مع تظاهرة (الجزائر عاصمة للثقافة العربية)؟ خاصة وأن رفع ميزانية المهرجان أصبح في حكم المؤكد؟ ومن الواضح أن أي تصعيد للصراع في الطبعة القادمة سيكون الخاسر الوحيد فيه هم الهواة ومسرحهم.. المستغانميون عودونا على نسيان خلافاتهم وتوحد جهودهم أمام كل موعد تاريخي هام، فهل ينسون خلافاتهم العام المقبل لإنجاح الطبعة الأربعين (40) للمهرجان، خاصة وأن عروض الطبعة القادمة ستقدم ليس أمام الجزائريين والمغاربيين فحسب، بل أيضا أمام حشد كبير من العرب، ما يجعل الوضع شديد الحساسية. نرجو أن تخيب توقعات المتشائمين حتى يصدق على المستغانميين وعلى مسرح الهواة في الجزائر عموما، المثل الشعبي (لخر سبولة قطع صباعو)..