د بشير مصيطفى: مستشار اقتصادي / دبي تابعت باهتمام ما ورد في حديث رئيس الحكومة الى منتدى التلفزيون سهرة السبت الماضي عن أحوال الجزائر، وقد شد انتباهي بشكل خاص حديثه في موضوع (الفساد) ثم حديثه عن (الاستثمارات العربية). والموضوعان يكتسيان دورا متميزا في رسم بعض مستقبل الجزائر، فالأول من الطرق السهلة لتهريب الثروة تجب محاربته، والثاني من الطرق المتاحة لتكوينها اذا ما تمكننا من ادارته على الوجه المناسب. وقد أشار لذلك رئيس الحكومة مشكورا، وتبقى هناك نقاط ظل في تناول الموضوعين تجدر الاشارة اليها. نحو ميثاق وطني لمكافحة الفساد الأرقام التي كشف النقاب عنها فيما له صلة بالصفقات الفاسدة والاختلاسات وسوء ادارة الاقتصاد في بعض جوانبه هي التي أخرت البلاد الى الرتبة 84 على سلم الفساد في العالم بمعدل حسابي لا يتعدى 31 نقطة من مائة حسب تقرير شفافية دولية للعام 2006. وبغض النظر عن حقيقة الأرقام: هل هي معبرة عن الواقع أم هي جزء من واقع قد تسفر الأيام عن كشفه برمته، فإن ملف الفساد في الجزائر لن يطوى بأداة العدالة وحدها ولن تتمكن الأحكام القضائية من متابعة الفاسدين الحقيقيين بالنظر الى الحيل المستعملة من هؤلاء من جهة، وبالنظر أيضا للمدى الذي بلغته الممارسات الفاسدة داخل المؤسسات الاقتصادية. فالقضايا الكبرى في دول الجنوب تموت عند القضاء كما بينت ذلك الوقائع وبدرجة أقل لم يتمكن القضاء الأمريكي -على تطوره وشفافيته وأدائه- حتى الآن من محاصرة الفساد في الأجهزة الأمريكية، وظلت رتبة أمريكا تراوح العشرين، بمعدل حسابي قدره 71 بالمائة، فقط دول الشمال الأوروبي مثل فلندا والسويد والدانمارك حافظت على رتبتها المتقدمة في أخلاقيات الاقتصاد (96 بالمائة) ليس لأداء جهاز العدالة وحده لديها والذي لا يتفوق كثيرا عن نظيره الأمريكي، بل لأسباب أخرى تخص نظام التعيين في الوظائف وطبيعة النظامين الثقافي والاجتماعي. وضع ميثاق اجتماعي لمكافحة الفساد يسبق بكل تأكيد أية أداة قضائية، فالقضاء عادة يستعمل بعد الجريمة حين تقع وكم يبلغ عدد الجرائم الذي يكتشفها القضاء أو تحال عليه مقارنة الى العدد الكلي لحالات الفساد، في حين أننا في الجزائر معنيون بمعالجة جرائم الفساد قبل أن تقع. نحتاج الى منهجية أخرى غير منهجية القانون وحده، الى توقيع الأجهزة كلها على ميثاق شرف أخلاقي يحظى بإجماع وطني ويسد أبواب الفساد المحتملة ويؤسس لثقافة المواطنة القائمة على المحافظة على المال العام. في هذه الحالة نحن محتاجون لمعالجة متعددة الأبعاد، معالجة دينية سوسيولوجية نفسية تربوية ثم قانونية في آخر المطاف. الإستثمارات العربية في الجزائر: حتى لا تتكرر تجربة الخليج بات الحديث عن الاستثمارات الخارجية المباشرة في الجزائر مؤخرا ذا نكهة عربية مميزة، ومن الطبيعي أن ترد في حديث رئيس الحكومة إشارات الى ذلك، خاصة وأن الوعود بهذا النوع من الاستثمارات قد بلغت أرقاما هامة -كما أشرنا الى ذلك في مقالاتنا السابقة- وقد تقارب الثلاثين مليار دولار هذه السنة. ومع أهمية هذا النوع من الاستثمار في أي اقتصاد نام الا أن تفضيلات رجال الأعمال العرب -ولا سيما الرساميل الخليجية- لقطاع العقارات بنوعيها التجاري والسكني يحمل مخاطر عمرانية واجتماعية جمة مثلما يحمل فرصا اقتصادية ايجابية. لقد بينت تجربة الخليج أن الاستثمار في العقار في غياب القوانين المنظمة لذلك سرعان ما يتحول الى طفرة عقارية تمس بتكامل المحيط وتؤدي الى أحياء من الأبراج المبعثرة وترفع أسعار الأراضي والايجارات الى أرقام قريبة من الخيال. وفي غياب رقابة فاعلة على سوق مواد البناء فإن ارتفاع أسعار هذه الأخيرة الى مستويات غير مسبوقة ولا يمكن التحكم فيها يظل أمرا محتملا بشكل كبير. وفي المقابل فإن هندسة الاستثمارات الخارجية ومنها العربية على اعتبار الأهداف الوطنية في اطلاق مشاريع لإنتاج الثروة يعني سلامة التفاوض في اطار المزايا التي من المفترض أن يحصل عليها المستثمر الأجنبي، يكون هو الخيار الأسلم: لا ينبغي أن نجعل من البلد ساحة لتجارب الاستثمار الخارجي بل يجب تثمين المزايا النسبية لقطاعي الصناعة ومشتقات النفط والفلاحة بما فيها الصيد البحري، وأمام المقرر الجزائري ان هو شاء النموذج الاقتصادي التركي وكيف تمكن تجمع رجال الأعمال والصناعيين الأتراك من تنظيم مؤسساتهم الانتاجية على أسس التنافسية واستغلال المزايا النسبية للمنتوج التركي باستقلال كامل عن الاستثمار الأجنبي. هذا التنظيم الاقتصادي يستعد الآن لتنظيم معرضه الدولي الحادي عشر الى جانب المنتدى الدولي العاشر لرجال الأعمال في العالم أيام 23 حتى 26 نوفمبر الجاري، ويتوقع أن يستقطب هذا الحدث أكثر من 200 ألف بين زائر ومشارك وكلهم من رجال الأعمال والمقررين الاقتصاديين يمثلون أكثر من 60 دولة. والتجمع التركي للمؤسسات يضم 10 آلاف شركة تركية جميعها شركات منتجة وخدمات وهو بذلك يشكل قطب تسويق بارز ويدعم السياسة الاقتصادية التركية ويعد نموذجا ناجحا للنمو الاقتصادي من الداخل.