ها هي ذي سنة أخرى تنسلخ من أعمار الأحياء، و)أعمار غير الأحياء(، على وجه هذه الأرض التي مافَتِئتْ تدور، منذ أن وضعها الحي القيوم في مدارها من الكون في غابر العصور. وإن المتأمل في كتاب الله جل وعلا لتستوقفه، بكل إلحاح، آيات عديدة فيه، لِمَوْضوعها صلة قوية بالشهور والسنين، والأيام والليالي، وما يرتبط بها جميعا من حاجة الإنسان إلى تقويم الزمان، وعَدّ ما يمُرُّ منه بدقة وإتقان. من أمثلة ذلك قوله تعالى، -(إن عِدة الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شهرًا في كتاب الله يومَ خلَقَ السماواتِ والأرضَ)..- (التوبة / 36). وقوله تعالى في سورة الإسراء/ 12، - (وجعلنا الليلَ والنهارَ آيَتيْن... لتَبْتَغُوا فَضلا من ربكم، ولتعْلمُوا عددَ السِّنينَ والحسابَ وكلَّ شيءٍ فصَّلناهُ تفصيلا)... الكون كله بحساب دقيق. وتناوبُ الليل والنهار من آيات الله الكبرى لِخَلْقه. فكلُّ شيء محسوب، وكلّ شيء قد فصّله ربُّنا تفصيلا! فهل نحن "نَعْلم" حقا وصدقا عدد السنين والحساب؟ وهل نحن نقوِّم المنصرم من الزمان فعلا، ونتخذه مِسْبارًا لأعمالنا، كأفرادٍ وكمجتمع، نَِزنها فيه بالقسطاس المستقيم؟ * لو أن حكيما أراد أن يصف، بأوجز العبارات، الحدود الفاصلة في السيرة والسلوك، بين جماعة تسير، وجماعة متوقِّفَة أو كالمتوقفة؛ أو أحبَّ أن يُشَخِّص بكل دقة بعض العوامل الحاسمة التي تجعل تصنيف ذاك المجتمع في المتقدمين، وتصنيف هذا في المتخلفين، مع أنه كان الأقرب إليه في جُلّ الأوضاع والظروف التي انطلقت منها مسيرته، قبل سنوات أو عقود قليلة!. لوْ أراد الحكيم ذلك لأمكنه أن يشير، بكل اطمئنان، إلى أن أحد الاختلافات الأساسية بينهما تكمُن في مدى تقدير كل واحد منهما لقيمة الوقت، ومنهجه في الحرص عليه، وأسلوب كلٍّ منهما في كيفية استعمال كل ساعة منه، وكل دقيقة في ما ينفع منه وما يُفيد. وتبارك القائل، جل وعزّ، (ولِتَعْلمُوا عددَ السنينَ والحساب) ولله دَرُّ الشاعر أحمد شوقي حين قال،
وها هي ذي بلادنا تودع سنة ماضية إلى غير رجعة، وتستقبل سنة قادمة، شأنُها في ذلك شأن الإنسانية جمعاء. ولكن الإنسانية ليست لا على طراز واحد، ولا على نمط فريد؛ وإنما هي أشكال وألوان.. فيها المتقدم وفيها المتخلف؛ فيها الواقف المتحفز، وفيها القاعد المستكين؛ فيها الصاحي اليقظان، وفيها النائم النعسان؛ فيها السائر العجلان، وفيها المتوقف المشلول منذ حقب وأزمان!.. فما موقع الجزائر من هذه الأشكال والأنماط؟ وما الذي أنجزه أهلها في السنة التي ودّعوها، وما الذي خططوا لفعله في السنة التي يستقبلونها؟.. لستُ من فئة من يسمَّوْن ب"العَدَمِيّين"، أولئك الذين يُنكِرون على بلدنا أن يكون قد تحقق فيه أي شيء إيجابي، في أي من عهود الحكم التي تعاقبت عليه منذ نصف قرن على استقلاله. إن الذين يكون هذا مذهبهم إنما هم من المُكابرين، المعاندين، الذين قد لا ينفع تضييع الوقت في مجادلتهم. وهم، من هذه الناحية، يشبهون تماما أولئك المتمَسِّحين بأعتاب السلطة، وسَدَنَة معابد الحكام، المنبهرين على الدوام ب"المعجزات" التي يحققها في كل يوم سادتهم، وأولياءُ نِعمهم الذين يَتكَسّبون لديهم بالنفاق والكذب والبهتان؛ والتجنّي على الحقيقة في ما يُذيعون وما يكتبون.. وهناك فئة أخرى من المواطنين لا يتوقفون في تقييمهم إلا عند احتساب ما يُنجَز من المرافق والهياكل. فالإنجاز الوحيد الذي يعْتَدُّون به هو ما تنشره الإدارة بلا رقيب عليها من إحصاءات المساكن التي بُنِيتْ، وكيلومطرات الطرق التي شُقتْ، وعشرات المدارس التي دُشِنَت، وملايير الدنانير التي أنْفِقتْ... وكانّ هذه الأشياء وهي ذات أهمية بلا أدنى شك هي وحدَها التي تتقدم بها الشعوب، وتنهض بها الأوطان. إن المُغيَّب الأكبر هو الإنسان!. هل يتمتع في بلده بكرامة الإنسان؟ هل يشعر بأنه مواطن كامل الحقوق، كما هي مقاييس المواطنة الحقة في البلدان التي تقود اليوم ركب الإنسانية المتطور؟ هل له الكلمة الفاصلة، الحرة، في كل ما يتعلق بنوعية مؤسساته السياسية، وممارسة السيادة المطلقة عند اختيار من يقودها، والمشاركة الفعلية في رسم توجهاتها الكبرى؟.. هل له رأي مُطاع في تسيير الشؤون المحلية، وما يدخل ضمنها من نشاطات اجتماعية وثقافية وغيرها؟.. هل لكلمته وزن فعلي عند رسم الأطر الخاصة بحياته الحميمة، بسعادته الأسرية، بمحيطِ سكناه وعملِه، بصحته، بتربية أبنائه؟... هذه وغيرها، مما يبدو للبعض جزئياتٍ وتفاصيلَ، هي التي تَصوغ، مجتمِعة، ملامح الشعب الساعي نحو التقدم، لأنه يكون ، حينئذٍ، مجتمعا مسؤولا، يشارك كل فرد فيه، بحسب موقعه وطاقته وإمكاناته، في صنع سعادة الجميع. فالكل مستفيدون من النجاح. والكل يتحملون نصيبهم من الإخفاق. انطلاقا من هذه الاعتبارات التي ذكرناها، كان بوُسْعنا أن نعدَ السنة المنصرمة، 2011، واحدة من أهم السنوات التي تولى فيها الرئيس بوتفليقة حكم البلاد؛ إن لم تكن أهمها على الإطلاق! وكانت لهذا جديرة بأن تتميز من باقي سنوات عهداته كلها، ما مضى منها وما هو آت إذا كتبت الأقدارُ له شيئا من ذلك وكانت تستأهل أن نُعلِّمها بحجرة بيضاء، ليراها الرّائي من مكان بعيد... ففي غمرة الروايات المتكاثرة عن متاعبه الصحية التي بلغت به، فيما قيل، حد العجز عن القيام بأعباء وظائفه الرئاسية. وبينما كان الأقارب والأباعد، من المحللين، يتنَبَّؤون للجزائر بأن دورها، في قائمة ثورات "الربيع العربي"، سيكون مباشرة بعد الثورتين التونسية والمصرية، أطل الرئيس على الشعب، من شاشة التلفاز، ذات مساءِ، من جُمُعَة ربيعية، في منتصف شهر إبريل، من السنة التي ودعناها بالأمس، ليلقي خطابا لعله بحساب القيمة المضمونية، والفائدة المعنوية، والتوقيت التاريخي، والأحداث المحيطة.. أهم ما ألقى وما قرأ من الخطب؛ على كثرة ما ألقى وما قرأ منها، خلال نَيِّفٍ وإحدى عشرة سنة، ظل الفعل السياسي المشلول فيها دون ما توقعه الناس بأشواط كثيرة، ودون ما تَصَوَّره أصدقاءُ الرئيس وخُصومُه على السواء، من حيث دينامية الحياة السياسية، وانعكاساتها على النشاطات الثقافية والفكرية في البلاد.. واختلف الناس في تقييم هذا الخطاب الذي بشر فيه الرئيس بربيع ديمقراطي في الجزائر، تتفتح فيه أكمامُ الأزهار في رُباها، وتُبَرْعِم فيه أغصانُ الشجر المُثمر في حدائقها، وتذوب، تحت أشعة شمسه الدافئة، أكداسُ الثلوج المتراكمة في ساحاتها طوال شتائها المتواصل فيها منذ أعوام وعقود... وعلى الرغم من التشاؤم العام، واليأس الوطيد من نظام قلما صارح الشعب، وقلما تعامل معه بصدق وأمانة، فقد كان في الزوايا القصِيَّة من ضمائر الجميع، حتى أكثرهم تشاؤما ويأسا، بصيصُ أمل خافت يُزيِّن للناس أن يتساءلوا، فيما بينهم وبين نفوسهم، وماذا لو صدَق النظام هذه المرة؟ وماذا لو أقبل على لعبة الديمقراطية بلا مخادعة، ولا مراوغة، ولا غش، ولا تزوير؟.. ستكون إذن البداية الحقيقية لتجسيد الحلم الذي "هرم الناس، وشابت نواصيهم في انتظاره".. بل وماتوا من شدة ما عانَوْهُ من اليأس والإحباط بسبب تأخر ميعاده. واليوم، ورأس النظام يتحدث عن كل ما تشتهي الأنفس وتَلَذ ُّ الأعين، قالوا في داخليتهم، لماذا لا نفتح للرجاء فسحة لنختبر منها مدى الصدق ومقدار الأمانة؟ أليس ما وعد به الرئيس وإن كان ضئيلا جديرا بمغامرة التصديق والانتظار في دروب الأحلام والآمال؟ التعديل الدستوري، وإصدار قانون جديد للأحزاب، وقانون جديد للإعلام وفتح الباب في وجه الإعلام التعددي، والمؤسسات الإعلامية الخاصة... وكان مما زاد في ترجيح كفة الأمل على اليأس، أن الرئيس بدا وهو يُلقي خطابه ذاك في حال متقدمة من التعب والمعاناة ظهرت في صوته الخافت، المتهدّج، الذي بدا لكل مستمع إليه أن صاحبه يبذل جهدا فائقا للنطق بالكلمات المرسومة أمامه بأكبر أحجامها، كما تدل عل ذلك الأوراق التي كان يقلبها بعد قراءة كل جملة أو جملتين. وكان قلب الصفحات ذاتُه يتم ببطء ملحوظ، حتى إن اليد اليمنى لم تكن من وَهَنِها الظاهر تستطيع أن ترفع الورقة إلى الأعلى، فتكتفي بجرها فوق الطاولة جرا.. وكان مبعث الأمل في نفوس من يريدون أن يتعلقوا ولو بقشة منه، أن رئيسا هذه حاله، لا يمكن ألا يكون صادقا مع نفسه، فيختم، بإرادته الحرة، وبمبادرته السيادية، مرحلة حكمه بقرارات شجاعة، عظيمة، تكسر السلاسل التي تقيّدُ حركة الشعب، وتفتح آفاق التفاؤل والرجاء لملايين الشباب والكهول في وطن بلغ سن الرشد وهو يُطِلُّ على السنة الخمسين من عمر استقلاله الافتراضي.. كل هذا دون أن يخسر الرئيس شيئا، بل إنه ليربحُ كل شيء، إذ يدخل التاريخ من أوسع أبوابه، ويجنب شعبه عواقب ثورة لا مَحِيدَ عنها، قد عاين الجميعُ ألوانا من مآسيها لدى أشقائنا في أقطار الوطن العربي الدانية منها والقاصية... وانتهى العام بخيبة شاملة، مازال يَعْلِكُ مَرارتَها المتفائلون والمتشائمون معا. وذلك بَدْءًا من اللجنة التي شكلت للحوار، إلى الأسلوب الذي رُسم لها لإجراء عملية ما سمي بجمع الآراء، إلى تقريرها المرفوع بالسرية المعتادة، والذي لم يشارك أحد من المعنيين لا في إعداده، ولا في الاطلاع عليه، لمناقشته وتعديله. ثم قامت وزارة الداخلية كثر الله خيرها بإعداد النصوص المطلوبة، أو إدخال التعديلات على ما هو قائم منها.. وكل هذا في ضوء ما رُسم لأفواج التحرير فيها من الأطر والحدود. وما كان لتلك النصوص، مرة أخرى، أن تُعرَض على أيٍّ من المعنيين بها، وإنما قُدمت لغرفتي الأغلبية الآلية، فحظيت بالقبول المبرمجة له منذ البداية، والذي ما كان لأحد أن يشك فيه. وخَتمت الجزائر ربيعها المكذوب في نهاية سنة باردة المناخ، قارصة الطقس، لشتاء كل ما فيه بياناتٌ استثنائية تُحذر من عواصف ثلجية، وأمطار طوفانية، وفيضانات عارمة، وطرق مقطوعة، ومناطق منكوبة، وخيام منصوبة... بالخيبة والإحباط ختم الناس في هذا البلد سنة ظنوها حُبلى بالوَلد الموعود، واعتقد الكثير منهم أنها ستشهد التحول التاريخي السلمي من العسر إلى اليسر. وقد أتى عليهم فيها حين من الدهر صدَّقوا ما اعتادهم فيها من توهم، بأن بلدهم الذي تميز، في كثير من الظروف والأحوال، بأوضاع عالية الإيجابية، انفرد بها دون أشقائه في المغرب والمشرق، سيسطع كوكبه، هذه المرة أيضا، في أفْق السُّعُود، وسيقدم النموذج الحي عن إمكانية مرور سَلِس إلى عهد الديمقراطية الحقيقية، وسيادة الشعب المطلقة على مؤسساته الوطنية كلها، بلا صدام، ولا عنف، ولا دماء تُسفك، ولا حرمات تُنهك، ولا جرائم ترتكب.. بلا مزيد من الشهداء، فإن عندنا من أمجادهم ما هو تاج ترفعه كل هامة في الجزائر.. وعندنا من الأرامل، والثكالى، واليتامى، والمعطوبين، والمنكوبين.. من كل نوع ما لا مزيد عليه لمستزيد. نعم، لا بد لكل عام من ربيع!. وليست الجزائر بِدعا من شقيقاتها العربيات. ودوام الحال من المحال. فبإمكان الحكام أن يُهَيئوا لمقدم الربيع مواكبَ المباهج والأفراح، ولكنه يستحيل عليهم أن يمنعوا مَجيئه المحتوم، أو يؤجّلوا وصوله المعلوم، بمال، أو حيلة، أو سلاح!. فيا رب يسر لهذا البلد الذي أثخَنَتهُ الجراح، ورَويَتْ من دمائه البطاح.. يا ربَّنا، يا ذا الطَّوْل والجلال، أنْعِمْ على شعبنا بربيع، مبارك، ميمون، لا عنف فيه ولا قتال. * madrasala@hotmail.com