عرف مصطلح «لكريدي» طريقه وبقوة لقاموس الجزائري خلال السنوات الأخيرة، بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي يتخبط فيها الكثير من الجزائريين، والتي قصمت ظهر المواطن البسيط وألهبت جيبه، ليضطر الكثير من الموظفين إلى الاستدانة من الأهل والأصدقاء والعيش ب«الكريدي»... فرواتبهم تنتهي مع الأيام الأولى من الشهر، لكثرة الالتزامات وتعدد المسؤوليات، خاصة مع ما تعرفه الأسعار من ارتفاع فاحش أرهق الكثيرين. «دين» أصبح من الصعب الحصول عليه، لأن قلة فقط من يمكنهم تسديده بعد تجاوز الوقت المتفق عليه، ما يوقعهم في حرج كبير، فغلبة الدين وقهر الرجال لا يتصورها إلا من ذاق مرارتها، ليدخلوا دوامة الخوف والتهرب وحتى الأرق، بحثا عن السبل التي تحفظ ماء وجوههم وتخفف عنهم وطأة «الدين». قبل اليوم كان الفقير الذي يعاني من انعدام المدخول أو ضعفه، يتحمل وحده مشقة الدين والعيش ب«الكريدي»، لكن الحال اليوم تغير وأصبح الدين ضرورة يلجأ إليها الكثير ممن خانهم الحظ وعجزوا عن دفع ثمن كل الاحتياجات وتوفير مختلف المتطلبات، خاصة بعد أن تحالفت الأسعار الملتهبة مع كثرة المناسبات التي تأتي تباعا ولا تغادر إلا بعد أن تنهي كل المصاريف، فهذا الشهر الفضيل الذي تتزين فيه الموائد بأشهى الأطباق، والتي يتطلب تجهيزها الكثير والكثير، بعدها تأتي فرحة الصائم بعيد الفطر المبارك التي تأخذ هي الأخرى نصيبها من جيب المواطن المسكين، الذي يدخل قبل حلوله بأيام طويلة، رحلة البحث عن دين يخفف به عبء المصاريف، لتنسيه مشاق هذه الرحلة في الكثير من الأحيان، طعم الحلويات المغرية التي لا تذيب حلاوتها أبدا مرارة البحث عما استلزم لتحضيرها، ليأتي بعدها الدخول المدرسي الذي يزيد المواطن هما على هم، فما كان موجودا قد صرف وما تمت استدانته قد نفذ ولا بد من المزيد من الإنفاق، ولا مفر من توفير المال وبأي وسيلة، فمستقبل الأطفال على المحك ولا بد من تلبية احتياجات أسرهم، مناسبات لا تغادر إلا بعد أن تترك الملايين في ذمته لا يدري لا كيف ولا متى يسددها؟ وحتى بعد أن تدخل «الشهرية» جيبه فمحظوظ جدا من يبقى دينار منها بجيبه بعد انقضاء الأسبوع الأول من تحصيلها، فكلها ستذهب لأصحاب الدين، ويعجز حتى عن تسديد كل القروض وتبرئة ذمته، ليضطر لدفع المستعجل منها خاصة من يستحيل تأجيل تسديد دينهم وإلا لن يحصل على المزيد مرة أخرى، كما هو الحال بالنسبة للمحلات التجارية لاسيما الخاصة منها بالمواد الاستهلاكية، فصاحبها لن ينتظر الكثير ولن يمهله بعد حصوله على الراتب الشهري يوما واحدا وإلا سيلجأ إلى قطع تموينه بالمواد الغذائية كحل استعجالي، بعدها لا يفوت صاحب المحل فرصة مروره بجانب المحل صباحا أو مساء، لتذكيره بالدين ومطالبته بتسديده ولا يتوانى حتى في ملاحقته ببيته، لإجباره على التسديد الفوري لأنه عجز حتى على تحصيل رأس مال السلع التي يبتاعها بعد إحجام وتماطل الكثيرين عن الدفع، ما دفع ببعض التجار مؤخرا إلى إحداث قطيعة نهائية مع «الكريدي» الذي خرب بيوتهم.
«الكريدي»..شر لا بد منه
لم يعد الجزائري مؤخرا، بعد أن نهشت ظروف المعيشة الصعبة لحمه وقضت مضجعه، يخجل أبدا من الحديث عن الاستدانة أو حتى توفير مقتنياته اليومية باللجوء إلى «الكريدي»، خاصة وأن هذا الهم أصبح يتقاسمه الجميع مهما كان حجم المدخول، لاسيما وأن الكثير من الأسر لا ترضى العيش بما يتناسب وإمكانياتها المادية، فمن الصعب جدا أن تجد اليوم، خاصة وسط الموظفين البسطاء من يكمل شهره دون استدانة أو أن كل مصاريف بيته وأولاده مدفوعة الثمن، فالشهر يصر قبل أن ينتهي على التهام كل الراتب ويمتد حتى إلى رواتب الغير، من الزملاء والأصدقاء والأحباب، فالكل ينتظر على أحر من الجمر بداية كل شهر لتحصيل الشهرية، لدفع على الأقل المستعجل من الدين فيما تعاد جدولة ديون أخرى لا يمكن بأي حال تسديدها هذا الشهر، فربما الشهر المقبل أو الذي بعده، لتبدأ حكاية أخرى بين الدائن والمدين، تنتهي أحيانا إلى ما لا يحمد عقباه، لتصل حد ارتكاب جريمة قتل، فالدين الذي كان عند تسلمه نعمة تبهج القلوب وتزيل الهموم تحول فجأة بعد أن عجز صاحبه عن تسديده إلى نقمة لا يجد معها المواطن إلا التهرب من إلحاح صاحب الدين واختلاق حجة في كل مرة لربح المزيد من الوقت، فكل من يعرفهم استدان منهم ورتبه لن يكفي حتى ثمن ال«كريدي» الذي ينتظر أصحاب المحلات تسديده على أحر من الجمر، فمن أين سيسدد؟ وكيف سيسدد؟ فرغم علمه مسبقا بصعوبة الأمر، حتى قبل الاستدانة، فإنه لم يكن أمامه حل آخر، فالكل يجزم أن الدين و«الكريدي» شر لكن لا بد منه ولا حل بديل عنه، فمن الصعب جدا أن تكون رب أسرة ومسؤول على طلبات العديد من الأفراد دون أن تستدين، فالحاجة كما يردد الكثير ممن ضاقت صدورهم بما يعانونه جراء قلة الراتب وغلاء المعيشة التي لم تستثن مختلف الوظائف.
غلبة الدين وقهر الرجال
من الأدعية المأثورة التي يرطب بها المسلم لسانه، تلك التي يترجي فيها المولى عز وجل أن يقيه هم الدين الذي كثيرا ما يذل صاحبه، فما أصعب اللحظة التي يطلب فيها الإنسان يد العون من أخيه ويطلب منه إقراضه مالا، خاصة بالسابق، حيث لم يكن ليقدم على ذلك إلا إذا اشتدت عليه الضغوط وما وجد من حيلة غيرها وحتى قبل أن يقدم على طلب القرض، فالتخوف من رد سؤاله يظل كبيرا، ورغم أنه يطلب قرضا فقط، فالخجل لا يفارقه، وكما جرت العادة، فالاستدانة تقوم في مجتمعنا في الكثير من الأحيان على مبدأ الثقة، فلا تؤخذ ضمانات ولا تحرر حتى أصول أمانة، فقط يتم الاتفاق مسبقا بين الطرفين على تحديد موعد التسديد، لكن المؤسف أن الكثير يعجز عن تسديد دينه في وقته وكلما طالت مدة عدم التسديد يفقد المدين صبره ويبدأ الود يتلاشى بين الطرفين حتى وإن كانا من قبل من أعز الأصدقاء، وكم من صديق خسر صديقه لأجل دين، فالمدين يصر على الحصول على ماله ولا يكل ولا يمل وهو يطالب بحقه بلغة تصبح مع الوقت جافة في الكثير من الأحيان وقد تصل حتى إلى التهديد والوعيد وحتى أمام الناس لإحراجه وإجباره على الدفع، يلاحقه أحيانا إلى بيته أو حتى لمقر عمله، أما المستدين فما باليد حيلة ففي كل مرة يحاول التحجج بمختلف الأعذار، لكسب المزيد من الوقت، عل الله يخفف كربته ويرفع عنه ذل الدين ويبعد عنه قهر الرجال، فلو طرق الباب أو رن الهاتف أو أتى أحد للسؤال عنه، يقفز قلبه من صدره ويقول بهلع، أكيد هذا صاحب الدين جاء يطالب بماله وفي بعض الأحيان تتطور الأمور وتتحول حتى إلى جرائم قتل قد يذهب ضحيتها الدائن أو المستدين، فكم من شخص ارتكب جريمة قتل، فقط لأجل دين بعد أن رفض أو عجز المستدين عن تسديد دينه ورفض الآخر تفهم الموقف الذي يرى فيه حيلة مدبرة سيضيع معها حقه وسيذهب ماله، ولأنه لا يمكن أن يكون مغفلا ويجب أن يأخذ حقه بيده مادام القانون لن ينصفه لأنه لا يحوز على إثبات والقانون لا يحمي أبدا المغفلين، رافضا حتى تسيلم أمره لله، لتكون الجريمة التي قد يدفع فيها حتى الدائن حياته ثمن مطالبته بماله بطريقة لا يتقبلها الآخر ويعتبرها مستفزة ومذلة و مهينة، فالمال شيطان يوقد الشر كثيرا في غياب العقول، لكن ورغم ما يمكن أن ينجر عن الدين وال«كريدي» من مشاكل، فالمواطن مجبر لا مخير على طرق بابه، لكن دائما يدعوا الله أن ييسر له الاستدانة وييسر له التسديد.
«ممنوع الكريدي»..شعار معظم التجار
حكاية الدين وعدم قدرة الفرد على التسديد يبقى التاجر يدفع الجزء الأكبر من فاتورتها والتي قد تصل لدرجة الإفلاس وغلق المحل، بعد إحجام الكثيرين على الدفع سواء تعلق الأمر بعدم قدرتهم فعليا آو لسبب أخر قد تكون له علاقة في بعض الأحيان بالنصب والاحتيال، ليجد التاجر نفسه يدخل دوامة من البحث ومحاولة تحصيل حقه وبدل الاهتمام بتنمية تجارته، يبدأ رحلة البحث عن وسيلة لاسترجاع ماله والتي قد تثمر مع البعض بعد بذل الكثير من الجهود وقد تفشل مع الكثيرين، خاصة وأن بعض هؤلاء محتالين يلجأون في كل مرة لاقتناء أغراضهم بالكريدي من محل ما وبعد أن تصبح الفاتورة كبيرة يغيرون الوجهة إلى محل آخر دون أن يدفعوا وهكذا دواليك، واقع مرير دفع بالكثير من التجار إلى إحداث قطيعة نهائية مع سياسة «الكريدي» التي لم تجلب لهم إلا المشاكل وتجنبا للإحراج عمد الكثير منهم إلى تعليق لا فتات كتب عليها وبالبنط العريض «ممنوع الكريدي»، قرار يرى الكثير من التجار، أنهم كانوا مجبرين على اتخاذه بعد الأضرار الجسيمة التي تكبدوها. فالحقيقة التي لا مهرب منها اليوم، أن الكثير من البيوت الجزائرية التي وجدت نفسها بين مطرقة غلاء المعيشة وسندان الراتب القليل، تعيش بالدين و«الكريدي»، خاصة وأن ثقافة الاقتراض أصبحت تسير الكثير من الذهنيات وامتدت حتى إلى الكماليات، بعد أن فتحت البنوك أبوابها أمام الجميع. والكثير من الجزائريين لم تعد تخجلهم بتاتا الاستدانة.