نحن بصدد مباهلة التّواري خلف الفكر الكسيح.. نحن بصدد قعدة ثقافية فكرية.. لا مجرد حوار سئم السؤال بلا طائل.. نحن بصدد أن أكونك لأجدني بوصفي قارئة بامتياز لفنجانين الزوابع الثقافية العميقة الثمر.. فاقرأني في السّؤال أكتبك نقاطا على الحروف.. وتقبل لا مألوفي لأنّك غير العادي الذي أريد خلخلته كما أشاء ويشتهي الفكر.. جالسته: سهام عباوي -من حروف الضباب إلى الأوهام الشّهية تحار شهرزادك هذه المرة .. هل أقول إنك شهريار موغل في الإباحية السردية..؟؟ -على ذكر شهريار، فقد كتبت قبل سنوات نصا قصصيا قصيرا بعنوانه "انتقام شهرزاد"، وخلاصته أنّه في إحدى الليالي قررت شهرزاد أن تترك دفّة الحكي لغريمها الملك، وعندها لم يجد ما يقوله. وأنا الذي تأثرت أولا بحكايا أمي الشفوية في ليالي الشتاء الباردة، ثم بحكايا "ألف ليلة وليلة" في إحدى طبعاتها القديمة. ربما من هذا الجانب رحت أتقمص شخصية شهريار هذا وأتدرب على الحكي؛ حيث بدا جليا تأثير تلك العوالم الشّفاهية في عملي الروائي الأول (حروف الضباب)، وفي الكثير من الكتابات النقدية التي لم أشأ أن أجعلها تلقينية جافة ورحت أقرأ النصوص الروائية والنقدية وأعيد سردها بطريقتي الخاصة، وقد يكون هذا أحد أوجه "الإباحية السردية" كما تفضلت بالقول.. - المنجز السّردي في العالم العربي يبقى يعاني الكثير من الصمت وإن ظن أنّه "فحل" في تحطيم الطابوهات لكنه كذلك الطفل الصّغير الذي يتشيطن ليقال إنه تشيطن على رأي إيليا.. إننا بصدد مواجهة فوبيا الاقتحام للامألوف والابتعاد قليلا عن زخم الأساطير التي أراها قهوة سردك الأرِِق.. أجد الأساطير يا صديقي كتلك الحبوب المهلوسة التي تؤخذ لإسكان ألم التفكير.. -الكتّاب سلالات كما يقال، والكتابة خيارات. وأنا أخترت فيما اخترت الاقتراب من الأساطير طمعا في صناعة أساطير عصرية، ولا يعني هذا أن الأمر هروب من الواقع الذي نعيشه بكل "طابوهاته" التي يتفنن البعض في تكسيرها ويجد لذة ما بعدها لذة في ذلك. والعبرة في النهاية بالأثر الذي يتركه النص في متلقيه، فإن أثار فيها شيئا فقد حقق ما يريد صاحبه وإن لم يفعل كان مصيره صرخة في واد أو نفخة في رماد كما تقول العبارة الدارجة في ثقافتنا. والأمر في كل الحالات هو بحث عن الأسطورة الشخصية على رأي الروائي باولو كويلو. -هل مات الخيّر الرقيب فيك.. أم أنه صاح ال24 على ال24 سا ليأمرك فتأتمر..تابعت ذات مرة فيلما وثائقيا عن العبقرية تتحدّث فيه الدراسات عن ضرورة ترك المجال للتمادي في التمادي.. وأُخذت عينة تجارب من شباب و«صبايا» يقومون بحركات رياضية كأنها الجنون ليصيح بهم معلمهم: انساقوا خلف كل حركة لا تضعوا لها حدا.. هل تكتب بهذا الكيف.. أو هل فكرت ..؟ -اضطرتني الظروف في وقت سابق لأن أكتب مقالات صحفية على وجه الخصوص باسم مستعار، قبل أن "أستعيد اسمي" منذ سنوات خلت. وبصراحة هناك فرق بين التجربتين، كنت أكثر راحة في المرحلة السابقة وأكتب بطريقة أكثر سهولة ممّا أنا عليه في الوقت الحالي. وكنت أذهب بعيدا في المواضيع. ومعنى هذا أن الرقيب بشتى أنواعه حاضر فينا بطريقة أو بأخرى، صحيح قد يغفل بعض الوقت، ونكون أكثر جرأة في بعض الأحيان، بمعنى أنه لا يحضر 24 ساعة على 24 على حد قولك، لكنه لا يغيب تماما. كانت تجربة مهمة جدا والمرء يقوم بتلك "الرياضة" ويذهب بعيدا في التجريب، وفي كل مرة يجد نفسه يقتحم أرضا مجهولة، وكل ذلك يحدث لا شعوريا من أجل التدرب على نص روائي لم يكتب بعد، وقد يرى النور في وقت ما. - قرأت البعض من مقالاتك المسكّرة وتلك المالحة أيضا.. أعجبني مديحك للكذب من المعروف في ثقافتنا أن "أعذب الشعر أكذبه"، وفي عصرنا أبدع الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو في استعمال الكذب وبلغ مداها في رواية "باودولينو"، عندما صنع عالما قائما بذاته انطلاقا من الأكاذيب التي يعيها السارد جيدا. ويبلغ الأمر قمة المتعة "الأبيقورية" واللعبة الأدبية تبلغ مداها أو تكاد. إنّه كذب لكنه ليس بالمفهوم الأخلاقي في الواقع الذي يتناقض مع الصدق، بل هو الكذب الذي يدفع بالفن إلى أعلى درجات صدقه عندما يكون منسجما مع نفسه. وأعتقد أن هذه الإشكالية الكبيرة التي بقيت غامضة في أذهان الكثير منا هي التي جعلت الكتابة الأدبية عندنا في الكثير من الحالات بعيدة عما هي عليه في الآداب الحية. - دعنا لا نتحدث عن الصالون الدولي للكتاب الأخير والاستشرافات المستقبلية.. بل حدّثني أنت عنه -لا تهمّني الأمور التنظيمية في هذا الصالون، والذي تحوّل بالصدفة مع تكراره في أول دخول اجتماعي إلى.. أقول إننا نمتلك دخولا أدبيا على غرار الذي يحدث عند الضفة الشمالية من البحر المتوسط. لم يعد يهمّني من المكرمين فيه ومن يحضر ومن لا يحضر، بل المهم أنّه أصبح فرصة سنوية من أجل اقتناء بعض الكتب الجديدة وحتى القديمة التي لا تتوفّر في السوق، ونحن نرى أن الكثير من الكتب التي تطبع في الجزائر لا توزّع على الإطلاق وننتظر فرصة كهذه من أجل اكتشافها. - يوسا صاحَب نوبل هذا العام وتمزّق عصب في رأس آسيا جبار ورفّت عين أدونيس بشدّة..هل نواجه مؤامرة الإقصاء العربي من هكذا مقامات؟ -لست من أنصار نظرية المؤامرة. ولا أعتقد أن هذه الكاتبة أو ذاك الشاعر ضحية شيء "يطبخ في الخفاء" كما يقال، وإنما هي الآلة الإعلامية التي تتحرك عند اقتراب موعد هذه الجائزة الكبرى فترفع من حظوظ هذا وتقلل من حظوظ ذاك، وحتى يوسا نفسه ملّ من الانتظار واسمه طُرح لوقت طويل، وعندما يئس منها جاءته صاغرة، وعندما تلقى خبر فوزه بها لم يصدّق واعتقد أنها مزحة من بعض أصدقائه أو أعدائه المتربصين به. - لو قلت لك الرّواية إعمار للوقت والشّعر تفريغ لكثافته -هذا يقودنا إلى تعريف الرواية وتعريف الشعر. والفن في النهاية هو تمرد على مثل هذه القوالب الجاهزة، ونحن مع من يرفض مثل هذه الحواجز و"كل الفنون تطمح لأن تكون موسيقى" كما يقال في العبارة الشائعة، فلا عجب والأمر كذلك أن تتحوّل الرواية إلى تفريغ لكثافة الوقت، ويتحول الشعر إلى إعمار له. نحن في زمن سقوط اليقينيات. -كرة القدم.. لعبة إعلامية لمّا نزل نتلقّى ضرباتها وتتلقى.. نشهد أنّها أقوى من جلد منفوخ.. -حروب داحس والغبراء والبسوس التي أعطت للشّعر العربي الزير سالم وعنترة بن شداد، تستمر الآن بأشكال مختلفة مع هذا "الجلد المنفوخ". وتحوّلت تلك المعارك القديمة التي أرّخ لها شعر هوميروس وغيره، إلى ميادين معشوشبة طبيعية وستتحول إلى ميادين مكيفة مع المونديال الذي ستستضيفه قطر سنة 2022. فلا عجب والأمر على هذا الحال أن تولد ثقافة جديدة تتمحور حول هذا الجلد الذي بدا أكبر من أن يكون مجرد كرة مستديرة تتقاذفها الأرجل هنا وهناك. الأمر يحتاج إلى دراسات سيوسولوجية معمقة ولا يمكن تبسيطه أو تسطيحه في مقالات تدافع عنه أو تذمه مثلما يفعل البعض. - الصّمت في بعض الأحيان، عملية إبداعية حقيقية، لا يعرفها الكثير من النّقاد والدّارسين الذين تستهويهم لعبة الكلمات وبهرجتها». هكذا همست لي العصفورة النّمّامة.. وهكذا أردت لأوهامك الشهية أن تبدع صمتا هو الحكي والإبداع كله.. -هل أتكلم في هذا المقام وأحاول أن أكون أكثر بلاغة من الصمت؟ دعي الصمت يجيب عن السؤال. ولئن كان المرء مخبوءا وراء لسانه كما يقال، فإذا نطق عُرف. فإن الكلام يكون في بعض المقامات تدنيسا بلاغة الصمت وتعديا عليها. دعي الصمت يتكلم في هذا المقام.
-أنا مثلك.. معجبة أيضا بمقولة عالم الاجتماع المصري الرّاحل جمال حمدان التي صاغها في كتابه الشهير "دراسة في عبقرية المكان"، فالمكان مهما كان يحتاج إلى مساءلة حتى يكون العمل الأدبي أصيلا.. أسائلك عن «الإلدورادو» لتكون خاتمة هذا التّيه.. -"الإلدورادو" مدينة خرافية من إبداعات مخيلة الهندي الأحمر في غابة الأمازون، هي تشبه إلى حد بعيد "واو حريرة" كما صاغها التارقي عند جمال الطاسيلي وما جاورها، كما تشبه إرم ذات العماد التي ورد ذكرها في القرآن الكريم. هي مدن فاضلة أبدعت مخيلة الناس المحرومين من نعيمها في رسم الكثير من تفاصيلها. أحيانا كنت أتخيلني عبد الله بن قلابة الذي أضاع إبله فذهب ليبحث عنها في صحراء الربع الخالي فدخل إرم ذات العماد أو هكذا قيل وقضى حياته يحدّث الناس عن تفاصيلها. هي مخيلة الإنسان في كل عصر ومصر تبحث عن مدينة فاضلة هروبا من جحيم الواقع الذي لا يطاق. - أنت تعشق النهايات المفتوحة.. - أن تكون النهاية مفتوحة، معناه أن تتعدد قراءاتها، وهذا أراه احتراما لعقل المتلقي الذي أحاول أن استدرجه إلى "إشكالية" ما.. وأتركه يبدع في الخروج منها. شكرا لك على هذه الدّعوة الكريمة.