فقال مستفسرا: -شكرك، ولكن ما سبب هذا التلعثم، الذي لم أعهده فيك؟ ثم لِم هذا الابتهاج المفاجئ ؟" فقلت بعد أن تشبثت يداي بحبل الأمل، وهدأت منغصات الإحراج، واطمأن الفؤاد: -إن سعادتي ستكتمل لو تحقق مرادي. فقال: " إن شاء الله."، فهو قريب مجيب.. فقلت بعد هذا الصك التشجيعي، الذي تعبّق بمعانٍ أو ألفاظٍ دينية.. -أتمنى أن يتحقق مرادي، وتتكرم بمنحي شرف الموافقة على طلب يد ابنتك، فلقد سمعت كثيرا عن أخلاقها، التي عطر أريجها أرجاء حيّنا.. وذلك ليس غريبا على من حظيت برعاية أب مثلكم. -شجعني هذا الثبات النسبي، الذي وطّد أركان فؤادي. وبعث في رغبة شديدة على إطلاق اللسان من عقاله، وعرض تصوري للأسرة والزواج.. وربما الحديث عن مشاريعي المستقبلة على مضيّفي حتى أؤثر على قراراه.. فيأتي ردّه الفاصل أو المبدئي لصالحي.. بعد أن يطمئن على مصير ابنته، ويعلم بأنها بين أيدٍ أمينةٍ ومسؤولةٍ. ! ! - ولكنه بعثر عقد كلامي.. وقطع حبال أفكار بقهقهة فخمة.. ثم قال بنبرة يشوبها الكبر وتعلوها السخرية: -عن أي مستقبل تتحدث يا بني؟ -وماذا ستقدم لابنتي من مهر؟ -هل ستقدم لها قبضة من طين أم حفنة من حجارة لا تسمن ولا تغني من جوع..!!؟ - يا بني.. الزواج مسؤولية جسيمة، لا يجب أن تُهوّن من أمرها أحلام الشباب أو تقلل من شأنها خيالات الشعراء. - وعلى كل أنت مقبل على الدنيا.. ولا زلت تقف على أعتاب الشباب. بعد هذا الرد لم أشأ أن ألبث عنده ولو لدقيقة أخرى، حتى لا يمطرني بسيل من المواعظ الباردة أو يُلقي على مسامعي أكواما من تلك الألفاظ السخيفة المعروفة. استأذنت منه، وتوجهت نحو الباب، دون انتظار لإشارة أو موافقة على الاستئذان. فلحق بي، وشيعني بكلام فاتر لم يفلح في طِلائه بلسانه الطري. خرجت من داره وقد تمكنت الخيبة من فكري، وأحكم الحزن قبضته على قلبي. أفلتت بعض الدمعات الضعيفة من مقلتي.. وراحت الأخريات تتزاحم وتتدافع لتظهر براعتها في الركض والانفلات من عزم الإرادة والفحولة. فأظهرت براعتها في الجري بعيدا عن ذلك الفظ الأرعن، لتستقر أخيرا بين ثقوب الفؤاد. بعد هذا اللقاء المشؤوم توجهت مهرولا نحو بيتي.. نحو.. مخبأ أسراري وأحزاني. قطعت المسافة نحو بيتي في زمن قياسي، ولكنه عسير في مقياس المشاعر. فإن لم يدرك بدقات الزّمن، لأنّه يستشعر بخفقان القلب، وينبض بالأحاسيس، ويختلج بإيقاع الخواطر والهموم....