ترتفع في غياهب قلبي شهقات وجد تنتفض كأعمدة بخور شفاف الهدير، و عندما أحاول أن أرهف السمع لشدو النسائم المخملية في ترنيمة رومانية ، ينهض طائر الفينيق فيّ كمساحات بلا وبر . تقاسيم البخور المنبعث من حضورها يجعل حاسة الشم تلوك غصن زيتون أخضر ، و يكتمل البدر في عيني وهو يعرج على وطن يعج بالأنبياء .. من بعيد تلوح في الأفق جسور من نور تتمايل كرقصة قوس قزح في ظل يتآكل مع سعير الغربة، و يبقى الحنين كلسعة نحل سائلة في جسد النور الهزيل .. الشريط الشائك أمامي ، و أنا أشعر أني فارس الشمس الوحيد ، و أخر رجال الوطن ، و لن أكون بعد اليوم كمعبد رث .. ولن تعربد بي فجاج الشتات و لا تغني بي بلابل الغربة . الوطن أمامي .. والشمس بدأت بالانحناء نحو الروح . الوقت يتجاوز الثالثة ظهراً ، و الأرض في الجهة المقابلة تعج بالألغام ، وأنفي يعتلي نحو نسيمها كارينز و جدائل الغضب تتدلى من عنقي .. وكزتني بعصاها الفخمة لتعيدني إلى تراب الأرض ، و أشعلت بصراخها عليّ حطب الذاكرة ، و هي تقول بماذا تفكر أيها القديم ، ولماذا تحاول أن تقتحم ردهات الجنون ، و تختلس من جدران الماضي لسان النطق الأبكم ..؟ رمقتها بنظرة .. ثم عاود بصري امتداد أرض ترقص على أًصوات خلخال قلبي و هو يرقص فرحاً و حزناً ..وقلت لها : تعالي يا أمي .. تعالي لأسقط أرصفة الغربة .. قريتا هنا كانت وطنً بأكمله .. ها هنا كان لنا وطن من برتقال يمتد باشتعال الدبكة في الأعراس ، تنعشنا به رائحة خبز التنور و تنهيدات التين وهناك مسقط الزعتر وغار القدس .. أهفو غارقاً في وحل العناق معها .. و اشعر بصدر أمي نوافذ أزقة الخليل والحرم الإبراهيمي، ومواويل الميلاد في بيت لحم ، ورقصة الطير و هي تبلور الموسيقى في ضباب مرج ابن عامر و الجليل .. أدارت وجهي بيدها ليشع بقرب وجهها كفجر يفلت من عنان قصفة الشمس على جبينها و قالت : أيا بني .. ابتلع موج الحنين في رئتيك و افتح زندك لوعد الفجر و هو يرتل فرحة شريانك الأخضر .. فضحكت بصوت أعلى من سمات المكان و في مخاض ازدحام المشاعر قطعت الحبل السري الذي يربطني بالزمان و قلت لها : نحن أحيانا لا نتقن إلا فن الغناء و توجيه الروح إلى بلاط الرقص وهي عارية ألا من نور قنديل بعيد ينفث عطر الوطن على أوردة الجسد الطاهر .. و بدا لي وجه أمي يبحث عن جنة عذراء لتفترش بها حناء قلبي .. و أنا كنت أبحث عن ملائكة ينفخون ابتسامة رضا و يرسلونها لتستقر في فقرات ظهري ، و أنا أتحسس بقايا شعر غرتي . جذبت ذقني نحوها و قالت : لا تكن جافا كغصن تتدحرج عليه قطرات المطر و تتبخر ، و تصبح ظلا تائها كقط يموء في اعتكاف نجمة عابرة ، وأنت الصنديد الذي رضع حب وطنه ، وأصبحت بحبه كجذل الصعلوك ، فليغادرك الحزن و لتتحول زركشات دمك الأصيل إلى بيادر زمان، زمان يبدأ من بريق عينيك وينتهي عند بركان العودة و النصر القريب .. عانقت وجهها المنقوش ببياض الجنة بكفي المغبر، وطبعت على جبينها قبلة ، و ملئت رئتي بهواء الشرفاء ، و فركت مسبحتها الزيتية اللون بابتهال العاشقين، ومسحت الوجل الساكن في قلبها ببعض أناشيد الثورة و النصر، و شممت رائحة الدمع في مقلتيها ، فقالت : أهو حسن عاد ليرافقنا هنا .. ؟! كيف يتنكر هذا الوطن لشهدائه و يمنح المناصب لقطاع الطرق و الخونة ! أتعلم أيها القديم ، كان حسن ينتظر مرافقتك إلى تلك الأرض المقدسة ، فهل ترافقه إليها ..؟ عندها اشتعلت حرائق في قلبي الصغير و بدأت أضغط على حنجرتي بعنف كي لا تجرؤ على النحيب ، و بدت ملامحي كتجاعيد غرناطة القديمة .. كهيكل رخامي .. و كان صوت يخترق رأسي ، و يخبرني أن الفاجعة الكبرى أن يرحل عنك الأحبة ، و الموجع أكثر أن أتذكر أمسياتنا العذراء ، و كيف أخبرتك بلون عيون هنادي بسذاجة عاشق و نحن نمتطي الأريكة العتيقة على سطح المنزل ، فقلت لامي : أرجوكِ لا تشعلي قنديل اللقاء ثانية فقلبي لم يتدرب بعد على أن يسع كل ذلك.. ومع حمرة المساء كانت خريطة الوطن تجعلني محدودب الجبين كرجل أعرج ، وانكسر الضوء ليعانق شموخ أقصوصة عشق منفية الصوت ، و بدأت القفز على إعصار ينشد حمم بركان مصاب بحب همجي ، و أثناء الرحيل كان اشتهاء لمطر يغسل نار وجدي على نافذة من عبير ، عبير البخور المرتشف بأحداقي ، وأنا أتكئ على جدران شمس فلسطين ، وشريط حبها علق في آلة نبض جسدي كتعويذة افريقية لن تزول .