( تابع..) ... " هي مدينة قصدتها باحثا عن أهلي ..وأحبابي الذين تفرقوا في الأرض منذ أعوام..وخاب ظني ..وتلاشت فيها أحلامي وما عثرت لهم على أثر فعزمت على مغادرتها ذات صباح ..وقد اشتد الظمأ في جوفي وجفت عروقي.. فوقعت عينيّ على عين تنبع من الأرض فسارعت نحوها..واغترفت منها شربة ماء ..فأعادت الحياة إلى أوصالي .. وزرعت الأمان في نفسي ..وتمنّيت لو انفجر من هذا المنبع اثنتا عشرة عينا.. وقفلت راجعا من حيث أتيت وشيء ما بداخلي صار يشدني إلى هذه المدينة وأنا لم انأ عنها بعد .. ولا أخفي عليك يا "سيغورني"أني همت بهذه المدينة وصرت أزورها كلما حنت نفسي إلى مائها العذب الفرات .. فأجلس قرب المنبع أتأمله.. وأحتم على نفسي المرتوية بأن تشرب أكثر ..وعندما أفكر بالرّجوع إلى وطني ..ومملكتي أملأ من هذا المنبع ما استطعت من قوارير أسقي بها كل من ألاقيه في طريقي..حتى الحمائم التي تؤانسني في كوخي المحاذي لنهر"ميري" صار لها نصيب فيه .. وصارت لا تستلذ غيره ورأتني ذات مرة عجوز مسنة قرب المنبع أطيل البقاء جواره.. فضحكت وقالت يا بني.."إنه نبع مبارك وماؤه مبارك ..ومن يشرب منه يعد إليه ثانية ".. فابتسمت وقلت في نفسي: إني عدت إليه أكثر من عشر مرات.. يا أيتها العجوز..ولما فكرت في استفسارها عن سر هذا المنبع لم أعثر لها عن أثر.. رحلت العجوز ورحل سر المنبع معها ...ويوما ما سأكتشفه يا "سيغورني " ففي هذا النبع الخصب والنماء ..وفيه الحياة والأمل ..وشفاء لكل جراحات أرواحنا المعذبة ..قال "أسعيد "إذن صدقت النساء العمريات في قولهن "إن الذي يشرب منك يا عين الفوارة يعود إليك ثانية" . ضحكت الأميرة وقالت: لذلك قرّرت أنا بعد سماع الحكاية من الأسير أن أزور هذه المدينة وأشرب من ماء هذا النبع . اندهش "اسعيد" وقال هل تقصدين أنك رضيت بهذه المدينة التي وصفها لك هذا السجين ؟أجل يا عزيزي ..فما إن أنهى السجين كلامه حتى انطلقت عبارات السّخرية والتّهكم من ألسنة الحضور قائلين : -عجيب أمر هذا الرجل؟.. يمكث دهرا بالسجن ويأتي طامعا في الزواج من الأميرة بوصفه لمدينة لا تليق بمقام حسناء مثلها..عجبا.. عجبا . ونظرت إلى أبي فإذا به يطأطئ رأسه ...واحترت لأمره ..تراه وقد خاب ظنه في السّجين، الذي قد كبر في عينيه لما علم بأمره ووفائه للمملكة ..لما أنقذها من الدمار والهلاك ..ثم سرعان ما صغر في نفسه لما رآه يقترح على ابنته الأميرة مدينة لا قصور ولا جنان بها إلا نبع ..ماؤه عجيب كما قال السجين ؟ ..عمّ الصمت القاعة ... قال الملك وقد قام من مكانه وقام الحاضرون : "ابنتي وقد سمعتِ كلام هؤلاء الرجال الرحالة الذين جاؤوك راغبين في الظفر بك ..فما الذي ترينه ومن منهم الذي تختارينه زوجا لك فتباركه الآلهة وأعلن قبولي به ؟ (الجميع يترقب ..الجميع ينهشه الفضول والترقب) تقدّمت الأميرة بخطى رزينة من الرحالة السبعة الواقفين جنبا إلى جنب ..وبدأت من أقصى يسارهم ..وتقدمت أكثر من الأول وظن الجميع أن اختيارها وقع عليه وانتفخت أوداجه وأحمر وجهه وقالت له : "وصفت القصور والنوادي ..فما استراح لذلك فؤادي .وقالت للثاني "وصفت حاكم مدينتكم العادل ..وإن قلبي عنكم لمائل" وقالت للثالث "فعلها الطوفان فيكم مرة .ولا أريد أن تعاد الكرة" وقالت للرابع "الآلهة لن تبارك ..في ..قوم ..قتلوا الناسك" وقالت للخامس "إن حدائق بابل قد احترقت وحولها الذئاب قد انتشرت" وقالت للسادس "أيها الإمبراطور على شعب كفور ..لا تنس أن الأيام تدور" . ثم وقفت أمام السابع والأخير وقالت ويداه مقيدتان : "أيها السجين ..عانيت شهورا وسنين .. وإنك اليوم لدينا مكين أمين" ثم أمرت الخدم بفك قيوده ..ونظرت إلى أبيها وقالت يا أبت ..الآلهة من فوق تبارك زواجي من هذا السجين وأنت من هنا .. فلتقبل بهذا الزّواج ..وأنتم أيها الحاضرون فلتشهدوا أني رضيت بهذا الرجل شريكا لحياتي وأنيسا لروحي ..وبايعته على نبع صاف وماء نقي " يتبع