(تابع) الرجل: أراك تلبسين ملاءتك إلى أين تذهبين.. ألم أقل لك أنني غدا ذاهبة إلى الحمام .. لتتناقل آلاف القصص من هؤلاء وهؤلاء..قصص من نوع الخيال العلمي ليلج الوطن تاريخا آخر، تاريخا من نوع الإعاقة التي أرقد فيها..إنها سنوات الجمر التي لم يذكرها التاريخ في أي من كتبه.. قصص عن الخوارج الجدد الذين خربوا أحلامنا وهدموا آماني الشعب المسكين .. حين تصبح في الجزائر يبدو أنك تعيش جنونا من نوع آخر..الكل هنا يمارس السياسة ويشتم المسؤولين..الكل يرى أنه أحق الناس بالحكم.. لا أدرى هل هي لعنة السماء ..أم أنها الحرية التي لم نألفها قبل أحداث أكتوبر؟ حين يعود الإنسان ليعاشر ذكريات التسعينيات يتهيأ له أنه يعيش في بحر الظلمات ..سفينة دون قائد وربان دون سفينة.. وفوق كلّ هذا أعوان كل واحد منهم يعتقد نفسه أنه أحق بقيادة السفينة..لتُزاحم الديمقراطية الرؤوس..هاهو كل هذا البلد يضاجع عنف الحرية.. ياه ..عشر سنوات كانت كابوسا مرهقا ومخيفا..لم نعتد قبل هذا التاريخ قتل بعضنا لم نشته أكل اللحم الحلال..لم نفهم قبل اليوم اختلاف الفقهاء ولا عنف السياسيين..كنا وفقط نريد وطنا نسكن إليه عن حب..نعقد بيننا و بينه قناعة تحكمها الرّحمة.. مساحات واسعة للعنف في كل مكان ..رؤوس على الطرقات ودموع على كل الخدود ودماء تفيض من كل جانب .. حينها تذكرت الألم الرهيب الذي ذقناه على عتبات الاستعمار.. ها أنت أيتها الذكريات تعودين كما لو كنت قضائي الذي يَهدُّني ..يبني مني إنسانا على شاكلة الذاكرة ..ليتكِ ترحمين هذا العبد الضعيف الذي ذوبته الأعوام وشيبته نحوته ورسومه الحجرية ...لم يكن الحاضر وحده قلعة للعنف بل في حياتنا نشنق عواطفنا على حبال الموت أكثر من مرة ...كل مرة تكون أقسى من التي مضت . كانت خطاي تتسلق القدر كل صباح.... قبل بزوغ الشمس أتوجه إلى عملي ، بل إلى عبوديتي ، يَالَ ذلك الزمان الذي كان يقبلنا عبيدا بالنهار ليحررنا بالليل ، أتراهم كانوا يعلمون أنهم يصنعون رجالا يتقنون سحر الليل ...أم أن الغرور قد استعبدهم، حتى ظنوا فعلا أننا كما يسيمون ..ألم يعلموا أننا لن نكون إلا ما نريد ما نشتهي ..فللحياة هنا في هذا الوطن سر آخر .. أشق طريقي كل صباح إلى "فيرمت ميشال" كنت كآلاف الخماسة يحلمون بقطعة من الخبز يحملونها إلى تلك الأفواه الجائعة ،و كنت أحمد الله أننا كنا ثلاثة أفواه ،فلقد كنت وحيد أمي و أبي ... لا أدري كيف نشفي من ذكريات العار ...نعمل كل يوم من الظلام إلى الظلام ولا شيء يعجبهم.. أخلصنا لهم و أساؤوا..فما بقي لنا إلا أن نشعل فتيل الرّجولة...أن نغلق على أعضائنا زمنا، فقط من أجل امرأة لا يتقن عشقها إلا الرجال.. كنت حينها فتى غض الطرف.. لا أجاوز العشرين ...شابا قوي البنية، مفتول العضلات،أسمر البشرة ، وسيم الملامح، كنت فتى يقبل على الحياة بلهف... يجر وراءه أسئلة بحجم الصراحة التي يتمتع بها هذا "القاوري" .. كان موسم الحصاد على الأبواب ووالدي شيخ كبير وليس في البيت من يعيلنا..أحسن أنه على مشارف النهاية ..شممت رائحة الموت تركض بقوة في منزلنا ... ناداني أبي مرة وأمسكني من يدي و قال في حسرة و ألم : بُني قادر ها أنت ترى حالتي الصعبة، فأنا على مشارف الانهيار... ترتبك شفتاه وتصيبه رعشة شديدة ،تنهمر من عينيه الزرقاوين دموع الأسف . أمسكته من يديه وضممته إلي بعنف لتتداخل داخلي أمواج الحزن .. لا تخف أبي، لا تكترث.. لقد خلفت رجلا، سوف ترى، فقط لا تحزن وأعاهدك أنني سأكون كما تشتهى..لنقع ثلاثتنا أسرى اللحظة..فتنتفض أمي .. ما بكما لم تنته الدنيا.. هنا بدأت ، سوف ترى .. سيكون قادر رجلا عظيما وتفرح فوق كل هذا بأولاده. نظرت إليها في ألم شديد.. أين نعم. مسح أبي عينيه، وأخذ يقول: عليك أن تحلّ مكاني...موسم الحصاد على الأبواب و أنت ما شاء الله أصبحت رجلا مكتملا ..لاخوف عليك، لقد كلمت سي -عزوز- عنك و هو مستعد لأن يضمك إلى الجماعة التي ستتوجه إلى فيرمت ميشال ، بل قد يزكيك عند "القاوري" ، ما عليك إلا أن تذهب إليه و هو سيقوم بالواجب..