وصف الرئيس بوتفليقة الانتخابات القادمة بأنها ستكون فاصلة بين عهدين، وترك الانطباع بأن مهمة البرلمان القادم ستكون تاريخية من حيث تكفله بمهمة تعديل الدستور الذي يبدو أن سقفه ارتفع عاليا. منذ الإعلان عن الإصلاحات في أفريل من العام الماضي وسقف هذا المشروع السياسي يتغير، فقد جاء الخطاب الذي ألقاه الرئيس في 15 أفريل عاما وغير مفصل، ومع الإعلان عن بدء المشاورات حول الإصلاحات هاجمت أحزاب المعارضة الخيار الذي اعتمدته السلطة، وجاءت التوقعات كلها متشائمة سواء تعلق الأمر بتحرير الساحة السياسية من خلال منح الاعتماد لأحزاب جديدة، أو من خلال تحرير الإعلام وخاصة فتح السمعي البصري أمام القطاع الخاص، أو التفاصيل الأخرى لهذا المشروع، وقد كانت الفجوة تبدو كبيرة جدا بين مطالب المعارضة التي ذهب بعضها إلى حد الدعوة إلى إعادة بناء الدولة الجزائرية على أسس جديدة انطلاقا من مجلس تأسيسي منتخب يتكفل بهذه المهمة، وبين من يرى أن الجزائر ليست في حاجة إلى تغيير سياسي كبير، وأن المطلوب هو التكفل بالمطالب الاقتصادية والاجتماعية التي حركت احتجاجات جانفي من العام الماضي. سقف الإصلاحات بدأ يتحرك من داخل التحالف الرئاسي الذي يمثل القاعدة الحزبية للسلطة، وقد كان تبني جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي لخيار تعديل عميق للدستور، وفتح قطاع الإعلام السمعي البصري أقوى إشارة إلى تحرير الإصلاحات من القيود التقليدية التي كانت المعارضة تتوقع بقاءها عائقا في وجه التغيير، ثم جاءت إشارات أخرى من بعض أعضاء مجلس الأمة المعينين من قبل الرئيس الذين دعوا إلى الذهاب بعيدا في الإصلاح، وكانت مطالبة زهرة ظريف بيطاط بمجلس تأسيسي من ضمن المفاجآت التي حفلت بها المشاورات حول الإصلاحات، ونقلت تقارير إعلامية أن الرئيس بوتفليقة عقد اجتماعات مغلقة مع رئيسي غرفتي البرلمان وممثلي أحزاب التحالف الرئاسي، وخلال تلك الاجتماعات لم يكن رافضا لطرح فكرة المجلس التأسيسي كما أنه لم يكن ضد خيار حل البرلمان، غير أنه اختار في النهاية أن يجري التغيير من داخل المؤسسات لتجنب تعقيدات أخرى. الخيار الذي اعتمده الرئيس بوتفليقة في الإصلاح قام أساسا على تعديل قانوني الأحزاب والانتخابات، وهذه التعديلات ستكون معنية بها كل الأحزاب دون استثناء، وهذا يعني أن البداية تكون باعتماد قواعد جديدة للعبة الديمقراطية تحظى بموافقة الجميع، وقد أشار إلى هذا الأمر في تدخل له في أحد اجتماعات مجلس الوزراء عندما قال : “ومهما يكن من أمر يجب أن تودع كافة المشاريع هذه لدى مكتب المجلس الشعبي الوطني في أجل أقصاه بداية دورته الخريفية المقبلة كي تناقش ويصوت عليها كلها خلال الفترة التشريعية الحالية . إن الأمر يتعلق هاهنا بهدف سياسي مهم بالنسبة للجميع سيتيح تنظيم الانتخابات التشريعية والمحلية وفقا للقوانين الجديدة”، وعلى أساس هذه القواعد سيتم إجراء الانتخابات التشريعية القادمة، وبعدها يتم الانتقال إلى الخطوة التالية : “وأما مشروع مراجعة الدستور فإنني عازم على عرضه على البرلمان بعد الانتخابات التشريعية المقبلة، وقد اخترت هذا لأسباب موضوعية منها أملي في أن يتم تنظيم الانتخابات التشريعية المقبلة في كنف الشفافية التامة وتفضي إلى تمثيل كافة الأحزاب السياسية الكبرى القائمة في بلادنا في البرلمان”. وتؤكد خطة الإصلاحات التي تبناها الرئيس الرغبة في تجاوز عقدة الشرعية التي تركز عليها بعض الأطراف السياسية خطابها من أجل التشكيك في نية الإصلاح، وبالنسبة للدستور فإن تعديله لم يعد ممكنا تمريره من خلال البرلمان الحالي، ومن هنا جاء الحل التوفيقي، لا حل للبرلمان لأن ذلك يفترض الأخذ بخيار المجلس التأسيسي، لكن لا تعديل للدستور من خلال البرلمان الحالي الذي يطعن البعض في شرعيته ويطالب بحله، وهذا الحل التوفيقي قد يفتح الباب أمام مشاركة أوسع في عملية الإصلاح، فمن ناحية هناك مشاركة الجميع في تعديل قانوني الأحزاب والانتخابات، ثم هناك برلمان ينتخب على أساس قواعد جديدة ليطرح الدستور للتعديل. رفض خيار المجلس التأسيسي بالصيغة التي تطالب بها جبهة القوى الاشتراكية يمكن تفسيره بالحرص على تلافي الجدل الذي يمكن أن يطرح حول الثوابت، وفتح جدل حول هذه القضايا قد يثير الفوضى ويذهب بالبلاد بعيدا عن هدف التغيير الحقيقي، كما أن تلك الصيغة تلغي سنوات من البناء المؤسساتي الذي يمثل تجربة لا يمكن القفز عليها أو إلغاؤها بهذه البساطة، لكن في مقابل هذا هناك إقرار صريح من جانب الرئيس بوتفليقة بأن الجزائر في حاجة إلى تغيير عميق، ولعل هذا ما دفع وزير الداخلية دحو ولد قابلية إلى اعتماد كلمة المجلس التأسيسي لأول مرة لوصف البرلمان الذي سينتخب في العاشر من ماي القادم، وهو نفس الوصف الذي استعملته الأمينة العامة لحزب العمال لويزة حنون التي كانت من أهم المطالبين بحل البرلمان وانتخاب مجلس تأسيسي، وبصرف النظر عن المصطلحات فإن المؤكد أن وصف البرلمان القادم بأنه مجلس تأسيسي يعني أن مهمته ستكون وضع دستور جديد أكثر من كونها تقديم مجرد تعديلات دستورية، وهو أمر قد ينتهي بنا إلى جمهورية ثانية رغم أن الرئيس حريص على عدم استعمال هذه العبارات التي قد تفهم على أنها موجهة ضد جيل بأكمله تحمل عبء تسيير البلاد بعد الاستقلال وفي ظروف معقدة.