أعاد الاتفاق الأمريكي الروسي حول سوريا اللاعبين الإقليمين إلى حجمهم الطبيعي بوصفهم قوى ثانوية لا تملك كل أوراق اللعبة، وقد كان تصريح رئيس الوزرا ء التركي رجب طيب أردوغان حول فرضية استخدام الجيش السوري أسلحة كيماوية، وقوله بأن ذلك تجاوزا للخط الأحمر الأمريكي، إشارة إلى الدور الذي تلعبه هذه القوى في الصراع الإقليمي الدائر في الشرق الأوسط . منذ سنوات قدم أردوغان نفسه على أنه وريث الامبراطورية العثمانية، وقد اجتهد كثيرا في تلميع صورته لدى العرب والمسلمين بعد سنوات من سعي حثيث للالتحاق بالاتحاد الأوروبي والذي بدا هدفا يبتعد أكثر كلما اجتهد الأتراك في الاستجابة للشروط الأوروبية التي ظل سقفها يرتفع باستمرار، ولأن ميدان النفوذ التركي كان الشرق الأوسط فإن الصراع العربي الإسرائيلي وما يثيره من حساسيات يمثل أحد أهم القضايا التي قفز كأولوية في السياسة الخارجية التركية. لم يصعد نجم أردوغان في العالم العربي إلا عندما بدأت العلاقات التركية الإسرائيلية تعرف بعض التوتر، وقد نجم هذا التوتر عن مواقف سياسية تتصل بدعوة أردوغان إلى رفع الحصار عن قطاع غزة، ولعب تركيا دورا أساسيا في تقديم المساعدات للشعب الفلسطيني المحاصر في القطاع، غير أن جوهر العلاقات بين البلدين لم يتغير، ولم يتضرر التحالف الاستراتيجي والتعاون العسكري بينهما رغم تجميد بعض المناورات العسكرية المشتركة في فترة الأزمة التي نجمت عن الهجوم الإسرائيلي على سفينة مرمرة والذي أدى إلى مقتل ناشطين أتراك، وقد بقي أردوغان يطالب باعتذار إسرائيلي كشرط لتطبيع العلاقات دون أن تستجيب تل أبيب. الأزمة السورية مثلت فرصة مهمة بالنسبة لتركيا من أجل فرض نفسها كلاعب إقليمي لا يمكن تجاوزه، فلم يكن واردا بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية الاعتماد على إسرائيل لتسريع عملية إسقاط النظام السوري تمهيدا لفرض ترتيبات جديدة كانت قد تأجلت بعد أن فشلت الحرب الإسرائيلية على لبنان تحقيقها في صيف 2006، كما أن الاعتماد على دول عربية محيطة بسوريا لم يكن خيارا مفضلا باعتبار أن الأردن لا يحتمل أي مواجهة مع دمشق، في حين ترتبط العراق بعلاقة وثيقة مع إيران التي تمثل الحليف الأول لدمشق، في حين يمثل لبنان الحلقة الأضعف حيث تملك سوريا أوراقا مؤثرة بداخله تجعل تحييده أفضل من توريطه في هذه الأزمة بالنسبة للأطراف العربية والدولية التي تدعم المعارضة السورية. من هنا بدا الدور التركي حاسما في تشديد الخناق على نظام بشار الأسد، فقد بدأ موقف أنقرة بالحديث عن دعم المطالب المشروعة للشعب السوري، وعلى ضرورة وقف ما سمي بالجرائم التي يرتكبها النظام في حق مواطنيه، وقد انتقل الاتراك بسرعة إلى موقع الهجوم، وخلال أسابيع قليلة تحولوا من فتح الحدود أمام اللاجئين السوريين إلى توجيه تهديدات صريحة لسوريا، وإرسال طائرات وانتهى الأمر بإسقاط طائرة حربية تركية وردت أنقرة بقصف مواقع سورية على الحدود، وكان واضحا أن أردوغان قطع خط الرجعة في العلاقة مع دمشق، وتحولت تركيا إلى ممر لآلاف المقاتلين الذين يأتون من مختلف أنحاء العالم للقتال في سوريا، كما أنها مثلت ممرا للأسلحة التي كانت تمولها السعودية وقطر لفائدة المعارضة، والأهم من هذا أن أنقرة قدمت الدعم السياسي ولعبت دورا هاما في تشكيل المعارضة السورية. ما قام به أردوغان لم يكن مجرد استجابة لنداء الضمير والأخلاق، ولا جزء من النضال من أجل ترسيخ الديمقراطية في الشرق الأوسط، بل كان استجابة للمهمة التركية في إطار المنظومة الغربية، فقد بقيت تركيا تمثل قوة مهمة في منظمة حلف شمال الأطلسي، وكانت طيلة العقود الخمسة الماضية مرحبا بها في المنظومة الأمنية ومرفوضة في المنظومة السياسية التي يمثلها الاتحاد الأوروبي، ومثلت التحولات الإقليمية في العالم العربي فرصة لتركيا من أجل تعزيز علاقتها مع الولاياتالمتحدة في مواجهة التهميش الأوروبي، ولعل أهم تفصيل على الإطلاق في المهمة التركية هو أنها تمثل سدا في وجه الدور الإيراني. سوريا التي تمثل أهم حيلف لإيران في الشرق الأوسط، ومنفذها إلى لبنان وجبهات المواجهة مع إسرائيل، تحولت إلى الميدان المفضل للسياسة الإقليمية لتركيا الباحثة عن دور نشيط، وقد بدأ تعزيز الدور التركي من خلال تعديل ظاهري للعلاقة مع إسرائيل يبعد شبهة التحالف الاستراتيجي مع تل أبيب دون أن ينهيه عمليا، وهذا التعديل هو المدخل الذي من خلاله سيتم لاحقا تبرير الاصطدام الحتمي مع إيران رغم أن أنقرة لم تدخل في مواجهة مباشرة مع طهران بل حرصت على لعب دور دبلوماسي إيجابي في الملف النووي الإيراني، غير أن الحرب الصامتة بين البلدين حول مواقع النفوذ أوضح من أن تحتاج إلى دليل إثبات. على صعيد آخر مثلت الأزمة السورية فرصة اقتصادية جيدة لتركيا، فقد دمرت الحرب قطاعات اقتصادية سورية كانت تمثل منافسا لتركيا في الأسواق العربية ومنها قطاع النسيج، كما استفادت أنقرة من امتيازات اقتصادية في دول الخليج ودول ما يسمى الربيع العربي، وهي امتيازات تقدم كمكافأة سياسية لأنقرة. المشكلة الأساسية التي واجهت الدور التركي هي قوة التحالف الذي تستند إليه سوريا، فقد أبدت روسيا صلابة غير متوقعة في مواقفها، ولم يكن الوقت في صالح المعارضة السورية بل لعب لفائدة نظام الرئيس السوري بشار الأسد الذي بقي مستفيدا من دعم جيش متماسك وقوي لم يتأثر بالحرب النفسية ولا بالانشقاقات الكثيرة التي شكلت مادة أساسية للحرب الإعلامية الشرسة خلال سنتين من الأزمة، لكن أكثر من ذلك استفاد الأسد من عدم وجود توافق دولي حول التدخل العسكري، ومع مرور الوقت بدت المعارضة السورية ضعيفة، وظهر وجه آخر للمعارضة يمثله الإسلاميون المتطرفون، وقد سارع الأمريكيون إلى تصنيف جبهة النصرة، وهي أقوى فصيل يقاتل على الأرض، ضمن التنظيمات الإرهابية معلنين تحولا في الأولويات. لقد كانت الأولوية هي إسقاط نظام بشار الأسد، وبالنسبة لتركيا والسعودية وقطر كان لابد من بلوغ هذا الهدف بأي ثمن وعن طريق العمل المسلح، لكن الأمريكيين وضعوا أولوية أخرى هي الحفاظ على وحدة سوريا والحيلولة دون تحولها إلى ميدان للنشاط الإرهابي، وهذه الأولوية تمر حتما عبر الحل السياسي الذي يمثل قاعدة الاتفاق الأمريكي الروسي وهدفه، وهذا أنهى الدور التركي في الأزمة السورية التي استلمت واشنطن وموسكو أوراقها كاملة.