لم تفلح دعوات المقاطعة في ثني عزيمة الجزائريين عن تقرير مصيرهم بأيديهم والانخراط بشكل غير مسبوق في بناء دولة المؤسسات، وقد كان سلوك الجزائريين فوق كل التوقعات المتفائلة والمتشائمة. تجاوزت نسبة المشاركة السبعين بالمائة، وتجاوزت بكثير نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية لسنة 2004، رغم أن المعركة كانت تبدو آنذاك أكثر إثارة والمنافسة أكثر احتداما، وهذا يستدعي التأمل، لأن موقف الناخبين يمثل جملة من الرسائل. أول الرسائل هو أن أغلبية الجزائريين تعتبر أن الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة التي يمارس من خلالها الشعب سيادته وسلطته في تعيين حكامه، وهذه الرسالة لها دلالات عميقة من حيث التأكيد على الاستقرار السياسي والمؤسساتي، ومن هنا تصبح هذه الانتخابات منعطفا حاسما على مسار تثبيت دولة القانون والمؤسسات، فضلا عن كونها تزكية شعبية صريحة لتعديل الدستور الذي لم يعرض على الاستفتاء الشعبي. وهنا لا بد من أن يفهم دعاة المقاطعة أن الجزائريين يحتكمون إلى قواعد اللعبة السياسية كما حددها الدستور، وهم يرفضون المقاطعة لأنها لا تؤدي بالنهاية إلا إلى الفراغ، والقرار الجماعي بالمشاركة هو تأكيد على أن الصندوق سيبقى الفيصل في كل المعارك السياسية، وأن الدعوات التي ظل كثير من الناس يطلقونها من خلال الحديث عن بناء الدولة الجزائرية من الأساس، ونقض كل ما تحقق خلال عقود الاستقلال هي مجرد أفكار سياسية لا يمكن أن تنبت هنا أو أن تجد من يناصرها. الرسالة الثانية التي بعث بها الجزائريون هي أنهم يصرون على الرئيس «بوتفليقة» لاستكمال ما بدأه من برنامج وطني شامل للتقويم وإعادة البناء على كل المستويات، وقد قال الناخبون أمس إنهم لا يرون الجزائر صورة قاتمة كتلك التي اجتهد في تسويقها دعاة المقاطعة ورجال السياسة الذين طافوا أرجاء الدنيا وسعوا إلى تشويه صورة بلدهم لعلهم يجدون سندا في الخارج يوصلهم إلى السلطة بدون انتخاب. لقد اختار الجزائريون الرئيس «بوتفليقة» لأنهم وجدوا فيه الرجل القادر على تحقيق آمالهم، هكذا قال مواطنون أصروا على الانتخاب في تيزي وزو التي فاجأت الجميع عندما خصت «بوتفليقة» باستقبال تاريخي وأعادت المفاجأة عندما تزاحم شبابها على مكاتب الاقتراع، وهناك قال أحدهم "نعم نحن مع بوتفليقة لأنه أعاد الأمن والأمل، ونأمل أن يحقق ما بقي من آمال في عهدته الجديدة"، وهذه نظرة يتقاسمها كثير من الذين ذهبوا أمس إلى مكاتب التصويت لتأكيد موقفهم. الرسالة الثالثة وهي مهمة جدا، وجهها الجزائريون إلى النخب السياسية والإعلامية التي ابتعدت كثيرا عن مجتمعها وفقدت الصلة بمواطنيها، وتفيد الرسالة أن ما تقوله هذه النخب لا يعكس الواقع المعيش لأغلبية الجزائريين، والأهم من هذا أن هذه النخب لم تعد مؤثرة في عامة الناس، وهذا يستدعي مراجعات جدية، لأن ما جرى أمس في الجزائر كان درسا بليغا على الجميع استيعابه.