يمكن أن يتبدد السكون الموحش بانحناء الأصلاب وسجود الجباه ويتبلل الجفاف اليابس بدموع الأسحار وخشوع القلوب وتزكية الأنفس وذكر الألسن وسهر الأعين.. هكذا يكون مساء الصالحين وليل العابدين، إنها همة المتهجدين، إنه أنس المنفردين وحب المخلصين، إنها مجاهدة السالكين ومكابدة المرابطين، وفي بقية هذه الأسطر حكاياتهم. ليلهم قيام كان «أبو هريرة» رضي الله عنه هو وامرأته وخادمه يقسمون الليل ثلاثا، يصلي هذا ثم يوقظ هذا، فالليل كله صلاة ومناجاة ودموع وخشوع وذكر وشكر، إنهم الموصوفون بأبلغ قول وأعظم صورة في قوله تعالى "تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبهُمْ خَوْفا وَطَمَعا"، ويرسم القرآن لهم صورة المضاجع في الليل، تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام، ولكن هذه الجنوب لا تستجيب، لأن لها شغلا عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ، شغلا بربها، شغلا بالوقوف في حضرته والتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء. كابِدوا الليل ومدّوا الصلاة يقول «يزيد الرقاشي» "إذا نمتُ فاستيقظتُ ثم عدتُ في النوم فلا أنام الله عيني"، وتأمل هذا الحوار مع الفراش، حيث كان «عبد العزيز بن أبي رواد» "يُفرش له فراشه لينام عليه بالليل، فكان يضع يده على الفراش ويتحسسه ثم يقول: ما ألينك، ولكن فراش الجنة ألين منك"، ثم يقوم إلى صلاته.. هؤلاء القوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون، ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن ذي الجلال والإكرام، يقول «الفضيل بن عياض» "أدركت أقواما يستحيون من الله في سواد هذا الليل من طول الهجعة، إنما هو على الجنب فإذا تحرك قال: ليس هذا لك، قومي خذي حظكِ من الآخرة"، وقد كان التابعون يتلذذون بالتعب والقيام، فهو عندهم موطن تنتعش فيه الأرواح وتبتهج وترتاح وتتقلب بين مسرات وأفراح وتكثر من المساءلة والإلحاح، ولذا جاءت وصاياهم وقد عملوا وتذكيرهم وقد اعتبروا وحثهم وقد سبقوا، فها هو «الحسن» ينادي "كابِدوا الليل ومدوا الصلاة إلى السحر، ثم اجلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار". من ترك طريق القرب سلَك طريق البُعد قال «أبو محمد الجريري» "قصدتُ الجنيد فوجدتُه يصلي فأطال جدا، فلما فرغ قلتُ: قد كبرتَ وَوَهَنَ عَظْمُكَ ورق جلدكَ وضعفتْ قوتكَ ولو اقتصرتَ على بعض صلاتك"، فقال "اسكت، طريق عرفنا به ربنا، لا ينبغي لنا أن نقتصر منه على بعضه، والنفس ما حملتها تتحمل والصلاة صلة والسجود قربة ولهذا قال تعالى: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ، ومن ترك طريق القرب يوشك أن يُسلَك به طريق البعد"، ويجدد «أبو سليمان الداراني» هذا الفقه ويبين هذا الشعور بقوله "أهل الليل بليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، ولو لم يعط الله تعالى أهل الليل في ثواب صلاتهم إلا ما يجدون من اللذة فيها لكان الذي أعطاهم أفضل من صلاتهم". أفلا أكون عبدا شكورا عندما ترى القلوب تتصل بالله ظامئة للعبادة، ترتشف ولا ترتوي، تزيد ولا تحيد وتتلذذ بالذكر فذلك هو الشوق والتعلق والذوق والتعبد، وقد كان «صلة بن أشيم» يقوم الليل حتى يفتر، فما يجيء إلى فراشه إلا حبوًا، ويقتدي المؤمنون في قيام الليل بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، وقد خاطبه ربه "يَاأَيهَا الْمُزملُ. قُمِ الليْلَ إِلا قَلِيلا"، كما ناداه "وَمِنَ الليْلِ فَتَهَجدْ بِهِ نَافِلَة لَك"، فقام ليله بلا مزيد عليه، وسئل عن إتعاب نفسه وقد تورمت قدماه فقال "أفلا أكون عبدا شكورا"، ومن هنا جاء وصفهم عند البعض حين قال "صحبت أقواما يبيتون لربهم في سواد هذا الليل سجدا وقياما، يقومون هذا الليل على أطرافهم، تسيل دموعهم على خدودهم، فمرة ركعا ومرة سجدا، يناجون ربهم في فكاك رقابهم، لم يَمَلُوا كلال السهر، لما قد خالط قلوبهم من حسن الرجاء في يوم المرجع، فأصبح القوم بما أصابوا من النصب لله في أبدانهم فرحين، وبما يأملون من حسن ثوابه مستبشرين، فرحم الله امرأ نافسهم في مثل هذه الأعمال ولم يرض من نفسه لنفسه بالتقصير في أمره باليسير من فعله، فإن الدنيا عن أهلها منقطعة والأعمال على أهلها مردودة".