التنوع والتعدد والاختلاف في السياسة واللغة والعرق والمذهب ظواهر طبيعية وسنن اجتماعية، لا يخلو منها مجتمع، فما من دولة إلا وتتألف من مكونات عدة، ويكمن الفرق بين المجتمعات أو بالأحرى الذكاء أو الغباء، في طريقة تعاملها مع هذه المكونات وإدارة هذه الخلافات، التي لها قابلية كي تتحول إلى عنصر ثراء وقوة ورخاء أو عنصر ضعف وصراع وتخلف، إلى حقل أشجار مزهرة ومثمرة أو حقل ألغام متفجرة ومدمرة، إلى كوكتيل فواكه أو كوكتيل مولوتوف. من المعلوم أن ما يفرق الأوروبيين أكثر مما يجمعهم، تفرقهم بحار من الدماء سالت أثناء الحربيين العالميتين، حيث بلغ عدد الضحايا عشرات الملايين، علاوة على مائة مليون ضحية سقطت أثناء الحكم الشيوعي كما ورد في الكتاب الأسود للشيوعية، هذا عدا ضحايا الحروب الدينية العديدة التي نشبت في العصور الوسطى، كمحاكم التفتيش وحرب المائة عام بين فرنسا وبريطانيا.. إضافة إلى عناصر أخرى تناضل جميعا لصالح الفرقة والنزاع، كاختلاف اللغات والأديان والأعراق والمذاهب، ولكنهم تمكنوا من تجاوز الخلافات وتناسي الأحقاد وتذليل الصعاب لبناء صرح الاتحاد الأوروبي. وبالمقارنة فما يجمع العرب والمسلمين أكثر بكثير مما يفرقهم: الدين، التاريخ، اللغة والجغرافيا أحيانا، بل المعاناة والمشاكل هي ذاتها في معظم الأقطار: الإرهاب، الاستبداد، الفساد، التباعية، التخلف، الاعتماد على الريع بالنسبة لكثير من الدول، حتى المشهد السياسي يكاد يكون متطابقا، حيث تتوزعه أربعة تيارات كبرى هي ذاتها تقريبا في كل الدوال: الإسلاميون، القوميون، اليساريون، الليبراليون. ولكن لم يمنع ذلك من تحول هذه الدول إلى مسرح للاشتباك والتناحر بين كل مكونات الأمة تقريبا: بين السنة والشيعة في سوريا والعراق والبحرين ولبنان وهو مرشح ليشمل المنطقة برمتها، بين الشمال والجنوب في كل من السودان واليمن والمالي، بين الأقباط والمسلمين في مصر، بين الأكراد والعرب والأتراك، بين العلمانيين والإسلاميين في طول البلاد وعرضها…توجد نظريتان متناقضتان لتفسير هذه الظاهرة: نظرية المؤامرة التي تحاول تبرئة الذات واتهام الآخر، وحتى مع التسليم بهذه النظرية، لم يكن ليكتب لها النجاح لولم تجد البيئة الحاضنة والقابلية والأدوات، ثم لماذا يقتصر الاختراق على بلداننا ولا يطال الغربيين رغم التعدد الموجود عندهم؟ لماذا توجد لديهم حصانة ضد الفتنة والفرقة ولا توجد عندنا، ونقيض نظرية التآمر نظرية تدعي أن المشكل يكمن في العرب والمسلمين ذاتهم، وهي تتقاطع مع مزاعم المستشرق الأمريكي برنار لويس الأب الروحي للمحافظين الجدد التي تزعم أن المسلمين أشرار بالفطرة ودمويون بالخلقة، وهم يكرهون الغرب حسدا من عند أنفسهم وغيرة من حضارته وطريقة عيشه، وتنفيسا عن إحباطهم وعجزهم، وليس بسبب انحيازه لإسرائيل أو لاستعماره لبلادهم ونهب ثرواتها.. ويكفي لبيان تهافت هذه النظرية وتفنيد هذه المزاعم تربع العرب والمسلمين على عرش الحضارة لأزيد من سبعة قرون، وتمكنهم من صهر أعراق ولغات وثقافات مختلفة في بوتقة واحدة، في الوقت الذي كان الغربيون يتقاتلون فيما بينهم ويرزحون تحت نير التخلف والجهل والتعصب. لعل السؤال الذي يقفز إلى العين هو: كيف جعلت أوروبا من تعدد مكوناتها قوة وثراء على ما بينها من تباعد؟ وجعلنا نحن من تنوعنا ضعفا وصراعا على ما بيننا من تقارب؟ الجواب عند العلمانيين جاهز وبسيط، يتمثل في فصل الدين عن الدولة أسوة بالغرب، هذه هي العصا السحرية في اعتقادهم التي أحدثت هذه الطفرة الهائلة في أوروبا فنقلتها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث، حيث مكنها الاستقرار الطويل من تحقيق هذه الفتوحات العلمية والابتكارات التكنولوجية، والديمقراطية والتنمية والرفاهية.. تنطوي هذه المقولة في الحقيقة على عدة مغالطات أبرزها اختلاف البيئة الأوروبية من حيث التاريخ والدين عن الإسلام، إذ تختلف المسيحية عن الإسلام في مفاصل جوهرية، من خمسة وجوه على الأقل :1- كونها تعاليم وإرشادات روحية أكثر منها شرائع وأحكام، والمسيح نفسه عليه السلام يقول “ملكي ليس في هذه الدنيا” والذي كرسته المقولة الشهيرة “دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر” وهو تفريق واضح بين الديني والزمني، خلاف الإسلام الذي يعتبر عقيدة وعبادة وأخلاق وشريعة 2- الدولة الدينية تختص بالمسيحية دون الإسلام الذي لم يعرف خلال تاريخه الطويل هذا النوع من الحكم لا في شكله الثيوقراطي ولا اللائكي :3- وجود طبقة رجال الدين “الإكليروس” في الدين المسيحي التي تحتكر قراءة وفهم وتطبيق الأناجيل، عكس الإسلام الذي لا توجد فيه مثل هذه الطبقة، حيث يمكن لأي كان أن يقرأ القرآن ويفسره إذا كان مؤهلا، وكثير من علماء الإسلام وفقهائه كانوا تجارا وحرفيين كالإمام أبي حنيفة والغزالي والجصاص والبيضاوي والزمخشري وهذه ليست أسماءهم وإنما كنى لحرفهم،4- تدعي الدولة الدينية العصمة وتعتبر نفسها ظل الله في الأرض تحكم باسمه ونيابة عنه ومن ثم لا يجوز الاعتراض أو الاستدراك عليها، في حين يعلن الإسلام صراحة ألا عصمة سوى للقرآن والسنة بدليل أن عمر رضي الله عنه الذي كان يتنزل الوحي أحيانا موافقا لأرائه نهر كاتبه حين كتب هذا حكم الله ورسوله قائلا له” بل أكتب هذا حكم عمر أتريد أن يكذب الله ورسوله”، وهذا الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام يصحح أميره حين قال سأنزلهم على حكم الله ورسوله، فقال له “بل أنزلهم على حكمك لأنك لا تدري أأصبت حكم الله ورسوله أم لا”، وهاتان الحادثتان تبينان بشكل قطعي أن الإنسان أيا كان عرضة للصواب والخطأ ولا يجوز إضفاء القداسة على اجتهاداته وأحكامه 5- لقد خاصمت الكنيسة العلم وسجنت بل قتلت العلماء أحيانا، الشيء الذي لم يحدث في الإسلام حيث كان العلماء فقهاء أيضا كالرازي وابن سينا وابن رشد، بل من اكتشف علم الجبر كان قاضيا مختصا في علم الفرائض اكتشفه صدفة حين كان يقسم التركة على الورثة، ويؤيد هذا ما ذهب إليه العالم الفرنسي موريس بوكاي مؤلف الكتاب الشهير: القرآن، الإنجيل والعلم، الذي أثبت فيه تناقض الإنجيل مع العلم وتوافق القرآن معه. يجب استبعاد الحلول السهلة وتجنب التبسيط والتسطيح لأن الأمر في غاية التعقيد تتشابك فيه عدة عناصر وليس عنصرا واحدا، منها التاريخي والثقافي والسياسي والاجتماعي، وزاد من صعوبة الأمر غياب النموذج، فكل النماذج الموجودة قاصرة وهجينة ومنفرة وغالبا مشوهة للإسلام فضلا أن تكون نماذج صالحة للتعميم والتطبيق والاقتداء، فضلا عن تلك التي حكمت باسم القومية أو الاشتراكية أو الليبرالية في العراق وسوريا وليبيا وتونس ومصر وغيرها من الدول. لا ينبغي أن يحول غياب النموذج الجاهز من بلورة بعض الملامح الكفيلة بتجاوز هذه الظاهرة، ويتمثل الملمح الأول في تبني المجتمع المفتوح والمنفتح، أي الديمقراطي لأنه الأقدر على استيعاب كل المكونات ويسمح بالتجريب والتصحيح والتقويم والاستدراك والتدافع والتداول، عكس النظام المغلق الذي يتسم غالبا بالتسلط، ويرفض النقد والتدافع فيحرم نفسه من التصحيح ويتبرم بالمعارضين ولا يقرب إلا المتملقين والموالين الذين يمتدحونه خوفا وطمعا ونفاقا لا اقتناعا، ويشجعونه على الاستمرار على النهج الخطأ إلى أن ينهار فينفضون عنه، كما حدث في المعسكر الاشتراكي سابقا وفي دول الربيع العربي لاحقا. ويتمثل الملمح الثاني في القدرة على بلورة مشروع مشترك طموح واضح الرؤية محدد الأهداف لتعزيز اللحمة الوطنية وتوحيد مختلف مكونات الأمة، وتعبئة الطاقات الكامنة في المجتمع صوب هذا الهدف الذي يسعى الجميع إلى تحقيقه، والتاريخ حافل بالأمثلة: لقد تمكن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم من توحيد القبائل المتناحرة وتعبئتها حول الرسالة ونشر الدعوة والاندفاع نحو الفتوحات، وفي العصر الحديث استطاعت جبهة التحرير الوطني من صهر مختلف القوى السياسية في بوتقة واحدة من أجل إنجاز استحقاق استقلال الجزائر، ويمكن أن نعزو النهضة الصينية والنقلة الهائلة لتركيا التي بلغ معدل النمو فيها قرابة العشرة في المائة وهو نفس المعدل الصيني تقريبا إلى طموح البلدين في استرجاع أمجاد الماضي: العثماني بالنسبة للأتراك والإمبراطوري بالنسبة للصين التي تسعى إلى تبوؤ الصدارة بين الأمم. وفي المقابل لا يوجد ما هو أسوأ بالنسبة للمجتمع من ضبابية الرؤية وغياب المشروع المشترك الذي يلتف حوله الجميع، الأمر الذي يولد الإحباط ويدفع إلى الانكفاء على الذات ويبعث الخلافات السياسية والنعارات الجهوية والقبلية، ويدخل البلاد في دوامة من الصراع والعنف.