اللعبة الديمقراطية في أفغانستان تبدو أقرب إلى صورة المسرحية التي تجري وقائعها على خشبة في غياب الجمهور، والمشكلة أن لا المخرج المسرحي ولا صاحب الدور يملكان من القدرة على الترويج أكثر بأهمية هذه المسرحية، وذلك رغم الإشهار الكبير الذي يقدمه المخرج الأمريكي والأوروبي من إعطاء الانطباع بأن اللعبة الديمقراطية فيها من الحيوية ما تبعث على التفاؤل خصوصا بعدما قبل الرئيس الأفغاني المنتهية عهدته بإجراء الدور الثاني بعدما تحصل على أكثر من 55 بالمائة من الأصوات في الجولة الأولى. فقبوله بإجراء الدور الثاني بعد إلغاء لجنة مراقبة الانتخابات التي تدعمها الأممالمتحدة للأصوات المزورة في 210 مكاتب توحي بأن الرئيس كرازاي يحترم القانون والدستور والشرعية كما خطب وبجانبه جون كيري رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي. كما أن صاحبي الدور المسرحي، كرازاي وعبد الله، يحاولان إعطاء الصورة لشرعية انتخابات على الطريقة الغربية بين متنافسين قويين كل واحد منهما لا يملك حتى إجراء الحملة الانتخابية في جنوب وشرق أفغانستان حيث تتمركز قوات طالبان. ورغم ذلك يحاول الإعلام الغربي تضخيم دور وزير الخارجية الأفغاني السابق عبد الله عبد الله على أنه المعارض القوي الذي يمكنه أن يكمل صورة التداول على السلطة أو المشاركة في تقسيم السلطة. أما الأسباب التي تجعل الجمهور الأفغاني يعزف عن متابعة أخبار المسرحية فهي كثيرة، أولها تكمن في خصوصيات هذا الجمهور ذاته، فمن طبعه وتقاليده وشيمه أنه يرفض المشاركة في أية لعبة سياسية يضع نصها الأجنبي، فهكذا جبلت نفسية الأفغاني فهو يحفر القبور على امتداد الجبال والسهول الأفغانية لكل غاز مهما كانت الصفة التي يتقدم بها، وهكذا كانت أفغانستان على امتداد القرن الماضي مقبرة للإمبراطوريتين البريطانية والسوفياتية، وهكذا ستكون نهاية الإمبراطورية الأمريكية. كما أن السبب الثاني الذي يجعل الجمهور يقاطع المسرحية الديمقراطية يكمن في نتائجها السابقة بحيث لم يقدم حميد كرازاي إلا نموذجا للسلطة التي يستشري فيها الفساد مع عجزه عن التجول خارج المنطقة الخضراء التي تحميها القوات الأجنبية. فالفضائح المالية وتورط شقيق الرئيس في تجارة المخدرات كلها تجارب لا تغري الجمهور الأفغاني بالتقرب من صناديق الانتخابات حتى وإن ضخمت الأرقام في المشاركة السابقة التي لم تتجاوز 39 بالمائة دون حساب أكثر من مليون صوت تم إلغاؤها من قبل لجنة مراقبة الانتخابات لثبوت التزوير فيها لصالح كرازاي. أما السبب الثالث فيتمثل في المعوقات الأمنية، فأصبح الأفغاني لا يثق في حكومة شكلية سلطاتها الأمنية لا تتعد المربع الأمني الأخضر في جزء من العاصمة كابول، وحتى المحتل يعيش في معضلة أمنية يتكبد الخسائر المادية والبشرية بسبب تصاعد حركة طالبان التي تجد الملاذ الآمن لدى قبائل الباشتون التي تمثل الجزء الأكبر من التركيبة الاجتماعية الأفغانية، ثم إن السبب الآخر الذي لا يغري الناخب الأفغاني بالتقدم لشبابيك المسرحية أن قوته يستمدها مما يغرسه من الأفيون في المناطق الريفية والجبلية التي لا يمكن لأية سلطة مركزية أو قوة احتلال أن تبسط سيطرتها عليه، فأصبحت استقلالية الجماعة القبلية الأفغانية تستمد قوتها من تمويلها الذاتي بعائدات المخدرات، وحتى عندما حاولت إدارة بوش في السابق القضاء على تلك المزارع بحجة أنها تقدم الدعم المالي لحركة طالبان فإنها خلقت معضلة أمنية واجتماعية، فالقضاء على مصدر الرزق الأول للقبائل يجعلها تتحالف مع حركة طالبان التي تقدم أجور شهرية لمقاتليها يتجاوز بكثير الراتب الشهري الذي يقبضه الجندي النظامي لدى السلطة المركزية، وحتى البديل التنموي للقضاء على زراعة الأفيون صعب للغاية مما يتطلب تجنيد المجتمع الدولي لتخصيص موارد ضخمة لبناء التنمية الريفية، هذا إذا أغفلنا الدور الذي تقدمه تجارة المخدرات للجماعات الاستخباراتية الغربية التي تحتاج إلى أموال سوداء لتمويل الأهداف السرية التي لا تمر على القنوات الرسمية، والنموذج الأفغاني في فترة الاتحاد السوفياتي كان واضحا في توظيف دولارات الرعب العائدة من تجارة المخدرات. كما أن المخدرات ذاتها أصبحت سلاحا تستخدمه القوات العسكرية للقضاء على الخصوم، وهذا ما طرحه الجانب الفرنسي للأمريكان في قضية تمرير الأفيون للجنود السوفيات في أفغانستان للقضاء على معنوياتهم القتالية، كما يستخدم للقضاء على حيوية المجتمع. سنقتنع أكثر بعد نتائج الدور الثاني أن ما يجري في أفغانستان مجرد مسرحية سياسية يليق بها عنوان ديمقراطية بدون ديمقراطيين، وقد يفسر الغرب عزوف المشاركة السياسية بعامل خارجي يتمثل في برودة الطقس الذي تعرفه أفغانستان في شهر نوفمبر للتقليل من تصاعد قوة طالبان التي تسيطر على أكثر من 70 بالمائة من الأراضي الأفغانية ووصلت صواريخها إلى القصر الرئاسي في انتخابات الدور الأول، لكن ما يهم الغرب وخصوصا واشنطن من كل هذه المسرحية أنه يحاول إقناع الرأي العام الغربي بأهمية المسار الديمقراطي في أفغانستان كحل لحفظ ماء الوجه، ولتبرير النفقات الضخمة التي يتحملها دافعو الضرائب، حيث أنفقت واشنطن ما بين 2001 تاريخ الإطاحة بنظام طالبان وصيف 2009 ما يفوق 223 مليار دولار، وستتجاوز النفقات العسكرية على الحرب الأفغانية في سنة 2010 ما يزيد على 65 مليار دولار متجاوزة بذلك لأول مرة النفقات العسكرية على العراق، كما أن المساعدات التي تلقتها الحكومة الأفغانية الهشة قاربت 4 مليارات دولار في سنة 2009 بعدما لم تتجاوز مليار دولار في السنة التي قبلها، وهو ما يطرح شرعية الإنفاق على نظام سياسي لا يملك شرعية داخلية تؤهله لبسط قوته الأمنية على خصوم تزداد قوتهم كلما زادت النفقات على الحكومة في كابول، والمصيبة أن إدارة أوباما أصبحت في ورطة إستراتيجية بين مطالب القيادة العسكرية الأمريكية في أفغانستان التي تطالب بأكثر من 40 ألف عسكري إضافي لتحقيق الأهداف المعلنة والمتمثلة في عزل السكان المدنيين عن حركة طالبان وتجهيز القوات الأمنية والعسكرية الأفغانية، والشرط الأولي الذي وضعه أوباما أن يكون هناك شريك أفغاني فعال وشرعي، وهذا ما جعله يضغط على كرازاي لقبول إجراء الدور الثاني عندما أعلن رفضه أي دراسة لتعزيز القوات الأمريكية ما لم تجر المسرحية الديمقراطية على الطريقة الغربية، أفضلها أن يتنازل كرازاي عن السلطة لعبد الله أو أن يتقاسم معه السلطة بتعيينه في منصب شبيه برئيس الوزراء. وحتى السيناريو الآخر الذي ينقل السلطات الأمنية في الميدان للقوات الأفغانية بعد سحب القوات الأمريكية وقوات الإيساف التابعة للحلف الأطلسي من مناطق الاحتكاك مع طالبان يكلف الحزينة الأمريكية نفقات ضخمة تقدر بأربعة مليارات دولار سنويا في فترة عشر سنوات القادمة، أي 40 مليار دولار يضاف إليها القيمة المالية نفسه على الدعم الاقتصادي للحكومة، دون حساب النفقات التي تصرف على القوات الأمريكية في أفغانستان، وهي كلها نفقات لا تطيقها الخزينة الأمريكية في عز الأزمة المالية والاقتصادية، مع شبح سيناريو المؤرخ الأمريكي بول كنيدي الذي يعتقد بأن مؤشرات الانحطاط الأمريكي كإمبراطورية بدأ قبل أكثر من عقدين من الزمن وسيسرع الإنفاق العسكري الضخم مقابل تراجع الإنفاق على الشؤون الاجتماعية في الداخل من سيناريو الانحدار، وهو ما يجعلنا نؤكد أن ممارسة الديمقراطية الغربية في كابول كخيار لوقف النفقات العسكرية الأمريكية تحتاج إلى ديمقراطيين لا نجدهم إلا في مزارع الأفيون وجبال طورا بورا.