قبل الإسلام.. كان العرب أمواتا.. يتيهون في أوسع صحراء في العالم.. ثم جاء الإسلام فانتشلهم من شيئين: القبر وسراب الصحراء.. ونفخ فيهم روح الحياة.. ثم أرسلهم لتصحيح أوضاع العالم المقلوبة.. حيث آلهة الأرض أكثر عددا من آلهة السماء ''أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا.. الأنعام 122 بفضل الإسلام.. تحولوا من مجرد ظلال باهتة تضمحل جغرافيتها عند حدود الماء والكلأ.. إلى أمة تنتج الحياة.. بأسمى ما فيها من قدسية.. وأقدس ما فيها من سمو.. وتمتد جغرافيتها إلى أبعد ما عرف العالم القديم من حدود.. حتى أن فاتحا عظيما مثل عقبة بن نافع الفهري أقسم ''وعزتك وجلالك لو أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته''. كانوا أمواتا في حدود ما عبدوا من أصنام.. غير أن بعض الصفات الظاهرة فيهم.. رشحتهم لاحقا.. ليكونوا أمة الرسالة الخالدة.. يصلون ما بين السماء والأرض.. ويشغلون موقع الشهادة على الناس ''وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ... البقرة .''143 حتى في جاهليتهم.. لم يكونوا يقبلون الذلة.. أو يبيعون شرفهم بعرض من جاه أو سلطان.. كانوا راجحين على غيرهم معنويا.. فاختارهم الله.. ومكنهم في الأرض ألف سنة. ٌ اليوم.. يرتد العرب على أدبارهم.. ليموتوا من جديد.. كما لم يموتوا من قبل.. ويا لها من موتة شنيعة!! يتخلصون بمحض إرادتهم من كل ما يمنح الحياة معناها.. أو يحفظ لها شرفها.. ويفقدون حتى ما في الجاهلي من قيم يموت دونها.. وخسروا الحياة كما رباهم علبها الإسلام.. وانحدروا إلى الهاوية.. متشبثين بذيل القافلة.. بعد أن تعروا من كل قيمة إنسانية. الآن.. يمكن أن نصدر حكمنا.. ونحن على يقين من أن لا شيء يجعل العرب أحياء.. باستثناء أنهم يتحركون على سطح الأرض كالذباب.. وليسوا نائمين في بطنها مثل الموتى الطبيعيين. خسروا كل شيء.. ونزل رصيدهم إلى الصفر.. واختاروا الحياة التي تساوي الموت.. ورفضوا الموت التي تعدل الحياة إذا كان ولا بد. ٌ ليس للعرب قضية.. فالتخلف بكل أوزاره، واحتلال العراق وتدميره، وتمزيق أوصال السودان، والدكتاتورية العمياء، وحقوق الإنسان المصادرة بقرار من النظام الرسمي، وملايين المعذبين في الأرض، وفلسطين المسلوبة بكل آلامها وقدسيتها.. هذه ليست قضايا تشغل بال العربي، أو تستثير نخوته.. ولا أنصاف قضايا.. هي أشياء ميتة.. مقبورة.. أوموضوعة على حافة القبر.. أو تنتظر إجراءات الإعلان عن وفاتها. لا قضية تستحق لحظة مراجعة.. أو دقيقة تفكير.. أو دمعة عندما يعز فعل شيء غير البكاء. أم القضايا.. التي تستنزف عبقرية العرب أعني عرب القصور والدثور هي كيف ينامون وعيونهم مفتحة كالذئاب.. وكيف يلتصقون بالكراسي مثل الغراء لا ينفكون عنها حتى يتوفاهم ملك الموت.. هذا هو الهاجس الأوحد والأبدي!! ليس للعربي طريق.. لأنه لا يملك وجهة يتحرك نحوها.. وهو تائه عندما يحاول نقل قدميه خطوة إلى الأمام.. فإذا تحرك سقط في أول حفرة تعترض سبيله.. وهو متخشب عندما يراوح مكانه.. حيث غاصت قدماه في الرمال منذ خمسة قرون. ولدت شعوب ودول من العدم.. فكسبت الحاضر والمستقبل.. ولايزال العرب حيث تركهم محمد علي في الاقتصاد والكواكبي في السياسة.. يفتقرون إلى غاية حقيقية يسعون من أجلها.. يمكن أن تتجاوز حدود الحرص على رعاية النظام الحاكم.. وتقوية عضلاته. السلطة هي الغاية وهي الطريق.. والنظام هوالمطلق الوحيد الذي يرفض أن يكون نسبيا. الدنيا برمتها.. تعبر إلى المستقبل.. وتعرف طريقها في هذا الاتجاه.. وتزيح العوائق من أمامها.. إلا العرب.. فإنهم يعبرون إلى الوراء. الروح التي حركت العربي.. ونفخت فيه قوة الاندفاع في أزمان غابرة.. لم تعد موجودة.. خمدت أنفاسها.. وتحول العربي إلى كيس من الاسمنت المتحجر.. تبلدت مشاعره إلى حد البلاهة.. وهضم كل الإذلال المسلط عليه. يتقبل كل الإهانات دون رد فعل يذكر.. يفقد الإحساس بما يحيط به.. حتى الأشواك التي تدمي قدميه.. لا يفكر في نزعها.. والسوس الذي ينخر جسده لا يسعى في التخلص منه.. بل ترك جسده يتحول إلى مزرعة للحشرات الضارة.. وفي الحد الأقصى.. يصدر ردود أفعال استعراضية في الشارع وفي اجتماعات القمة.. ثم يذهب كل شيء مع ذهابه إلى سرير النوم. ٌٌٌ ماتت إرادة العربي.. وغاضت همته.. استؤصلت منه كل ''جينات'' العزيمة.. وانتقل بكيانه كله إلى خانة الخنوع.. والقبول الطوعي بالإملاءات الأمريكية والصهيونية. لاشيء اسمه مقاومة، بل مطاوعة.. ولا أثر يشير إلى الرفض بل هوالاستسلام.. حتى الحشرجة التي يصدرها الأموات.. لا يملك العربي بثها.. خوفا من أن تغضب أمريكا. ٌ يحمل العربي رأسا منزوعة الذاكرة.. ينسى كل الأشياء التي لا يريد تذكرها.. وتتلاشى من تلافيف مخه كل القضايا التي يخشى حضورها في وعيه.. بافتراض وجود هذا الوعي أصلا. خرجت فلسطين التاريخية من دائرة تذكره.. ودخلت دائرة الأرشيف والمحفوظات السرية.. لم تعد هناك يافا وحيفا وعكا.. حتى القدس أوشكت أن تتحول إلى ذاكرة ميتة. لم تعد إسرائيل هي العدو.. فهي حاضرة بصورة رسمية في أكثر من عاصمة عربية.. وأمريكا ليست هي الشيطان الأكبر الذي يجب التعوذ منه.. والدماء التي أريقت.. والشرف الذي ديس.. والحقوق التي هضمت.. هذه لا تستحق الذكر ٌ أشياؤهم الخاصة ذهبت هي أيضا.. مال مسلوب لا يتصرفون فيه.. وسلاح كاسد لا يحاربون به.. وسياسة تملى عليهم.. وجغرافية مستباحة.. محتلة أومطوقة أوموضوعة تحت تصرف الوحوش القادمة من وراء البحر!! وبالجملة: لا قضية، لا إرادة، لا طريق، لا روح، لا إرادة، لا ذاكرة، ولا أشياء خاصة.. أليست هذه مواصفات الموتى؟ أحيانا.. أتساءل: لأي شيء وجد العرب؟ أمن أجل الحزن.. والمآتم.. والقهر.. والكثير من الهوان؟! وطن كبير.. ليس أكثر من قبر كبير، لا فرق فيه بين أن تعيش فوق الأرض أو تحت الأرض.. الزمن فيه مثل الصخر.. جامد وصلب.. لا يتفتت إلا بعد ملايين السنين.. يرفض التجاوب مع إيقاع العصر.. وينكر الماضي. يموت العربي قبل أن يولد وبعد أن يولد.. قبل أن يتعلم الأبجدية.. وبعد أن يتعلمها.. ثم يصبح الموت ملازما له.. وجزءا من مفردات حياته. يموت قبل موته.. لأنه لا يملك شيئا يمكن أن يعيش من أجله.