نشعر بالحزن والألم لما يجري حاليا في مصر من مظاهرات تعكس حالة الانقسام والكراهية، تحت عناوين متعددة يدعي كل طرف بصوابية موقفه، ولكن الشعب المصري هو الذي سيدفع الثمن من أمنه واستقراره ولقمة عيش أطفاله. النخبة السياسية المصرية سقطت في فخ التحريض، والنزعات الثأرية، والتدخلات الخارجية، عربية كانت أم أجنبية، وهي لا تدري، في غمرة سيادة الأحقاد، إنها تدمر نفسها قبل أن تدمر مصر. هذه ليست الديمقراطية التي ثار الشعب المصري من أجلها، وقدم أكثر من ألف شهيد من أبنائه، وهؤلاء جميعا ليسوا البدائل التي كان يتطلع إليها، لكي تمحو خطايا النظام السابق، وتقوده، أي الشعب المصري، إلى الأمان والرخاء والعيش الكريم، بعد أربعين عاما من الفساد والقمع والإذلال وسرقة عرق الفقراء والمحرومين والطيبين. في الماضي كان هناك عنوان واحد للمظاهرات، وهدف واحد للمشاركين فيها، اسقاط نظام فاسد وتقديم رموزه الى العدالة، تعددت العناوين الآن وتنوعت وانقلب رفقاء التظاهرات الى اعداء، ولا نبالغ ان نقول انهم يكرهون بعضهم البعض اكثر من كرههم للرئيس حسني مبارك، او حتى نتنياهو نفسه. اربعة شهداء ومئات الجرحى سقطوا في اليومين الماضيين فقط، ويعلم الله كم سيكون العدد عندما تلتحم ?الجيوش? وتخرج اسلحة المندسين من اجربتها، وتندلع شرارة المواجهات التي يتوقع الكثيرون ان تكون دموية. الاحتكام الى الشارع، وبالصورة التي نراها ليست له علاقة بالشرعية، والدعوة الى التمرد بالطريقة نفسها لا تمت بصلة الى الديمقراطية، فهذا التجييش في الجانبين يهدف الى تحطيم الآخر، وليس التعايش معه، وهذا يشكل عودة الى الجاهلية الاولى. من تابع مظاهرات الأمس، سواء تلك التي دعت اليها المعارضة، او الاخرى التي حشد لها النظام، يخرج بانطباع بأن البلد يتجه الى الحرب، ولكنها حرب بين ابناء الوطن الواحد، والجينات الواحدة، والهوية الحضارية التي تمتد جذورها إلى آلاف السنوات في عمق التاريخ البشري. فعندما تتوسع الاشتباكات إلى أربع محافظات ويسقط القتلى والجرحى بالمئات، وتتعرض مقرات سياسية "الإخوان" إلى الحرق، وقبل يومين من الثلاثين جوان فهذا مؤشر خطير يثير مخاوف جدية من أننا قد نشهد حمامات دم فعلا. ومن الواضح أن كل الأطراف في الحكم والمعارضة تفقد أعصابها، مثلما تفتقد إلى العقل والحكمة وضبط النفس، وترفض الآخر، بل وتريد تمزيقه، وتعتبر ان الحسم الوحيد الممكن هو استخدام العنف، سواء كان لفظيا أو ماديا، في ظل حالة من الانسداد السياسي، وتحريض إعلامي مقصود تقف خلفه جهات معروفة تريد استخدام حرية الإعلام كذريعة لوأد الثورة المصرية، بل ووأد كل الثورات العربية الأخرى، والعودة بالمنطقة إلى مرحلة أسوأ من الديكتاتوريات، مرحلة التفتيت والفتنة الطائفية والعنصرية والفوضى الدموية. ليس هذا وقت اتهام هذه الجهة أو تلك، المعارضة أو الحكومة، كما أنه لن يفيد مطلقا أن نقول لو أن الرئيس محمد مرسي فعل كذا أو ذاك، أو أن المعارضة تنازلت أو تعاونت.. لا هذا ولا ذاك، الأحداث تجاوزت كل هذا وبتنا أمام خيارين، أما الحرب الأهلية أو تدخل الجيش. لم أكن من الذين يؤيدون الانقلابات العسكرية في أي يوم من الأيام، ولكنني لا أتردد لحظة في تفضيل تدخل المؤسسة العسكرية المصرية لحقن الدماء إذا كان هذا هو العلاج الأخير. المعارضة المصرية التي هتفت بأعلى ما في حناجرها من صوت بسقوط حكم العسكر عندما استولى المجلس الأعلى للقوات المسلحة على الحكم، بعد إسقاط حكم مبارك أثناء المرحلة الانتقالية، ستكون سعيدة بهذا التدخل لإطاحة حكم الرئيس مرسي بالدبابات بعد أن عجزت عن إطاحته عبر صناديق الاقتراع، ولكنها لن تحتل مكانه، ربما لعقود قادمة، إن الجيش اذا ما مسك زمام الأمور لن يعود إلى ثكناته مثلما كان الحال قبل عامين، وسيعلن حالة الطوارئ فورا، وسيجد تأييدا قويا من الشعب. النخبة السياسية في السلطة والمعارضة معا لم تدرك أن التراشق بالمظاهرات، سيؤدي حتما إلى انهيار الدولة المصرية ومؤسساتها، وسيحطم ما تبقى من هيبتها، وهذه نتيجة مأساوية لن تفيد أحدا، وستؤدي إلى انتكاسة للتحول الديمقراطي والاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي في المنطقة بأسرها وليس مصر فقط، قد تستمر لسنوات. تغنينا كثيرا بالثورة المصرية وسلميتها حتى بحّ صوتنا، واعتبرناها نموذجا يجب أن يحتذى به في المنطقة بأسرها، ولكن يبدو ان هناك من يريد عكس ذلك، ونجح في مخططاته الجهنمية بامتياز.