تعودت بعض الدول الخليجية على التفنن في ممارسة نوع خاص من البيع والشراء.. تبيع النفط، هذه الثروة الهائلة، وتشتري تقريبا كل ما تريد، السلم الاجتماعي، الولاءات، الصحف، القنوات، الدعم الخارجي، بل الحروب أحيانا، إذ اشترت في بداية الثمانينات حربا بالوكالة على إيران خلفت ملايين الضحايا من الشعبيين الشقيقين العراقي والإيراني، حتى توقفت تقريبا من تلقاء نفسها بعد إنهاك الدولتين تماما، ودفعت أزيد من مائة مليار دولار للرئيس العراقي الذي تولى كبر هذه المأساة، ولكنه طالب بالمزيد بحجة أنه خاض هذه الحرب نيابة عن هذه الدول ودفاعا عنها، ولا ينبغي أن يتحمل الكلفة وحده، ولما رفضت الدفع، قام باحتلال الكويت، فابتعت حربا ضده سميت بحرب الخليج الأولى، وقامت بشراء أو بالأحرى كراء جيشي مبارك والأسد للمشاركة فيها مقابل حفنة من المليارات، إلى جانب التحالف الغربي طبعا. وها هي اليوم تحاول شراء ثورات الربيع العربي بدءا بمصر وببقية الدول لاحقا، ولمقاربة فهم ما يجري لابد من استحضار أركان هذه الصفقة وما ترمي إليه من أهداف. الشاري: وهو في هذه الحالة السعودية والإمارات والكويت، وللرد على من يتسائل عن سر هذه الصفقة، ولماذا تشتري هذه الدول الانقلاب على الرئيس المصري، وما هي مصلحتها في ذلك ؟ يمكن رصد ثلاثة أهداف لهذه العملية: ? تقويض التجربة الديمقراطية الفتية خوفا من انتقال عدواها إلى هذه الدول التي تضيق بها ذرعا، كونها تدعوإلى الشفافية والتعددية والانتخابات والمحاسبة والمواطنة والحرية وما إلى ذلك من القيم والمبادئ والمثل، وهي ترفض كل ذلك وتفضل الحكم الاستبدادي الذي يطلق يد الحاكم ليفعل ما يشاء دون حسيب أورقيب. الصراع الإيديولوجي بين المشروع الوهابي والإخواني بوصفهما مشروعين متنافسين على الاستقطاب والنفوذ والانتشار في الوطنين العربي الإسلامي، وإفشال هذا النموذج في مصر ابتداء باعتبارها موطن الحركة الأم وزعامة إخوان مصر لهذا التيار، والذي سيفضي حتما إلى فشلها لاحقا في بقية الأقطار، بدليل تزامن كل ذلك مع إطلاق حركات تمرد في كل من تونس والمغرب وليبيا وتركيا وهي البلدان التي يحكمها الإسلاميون في محاولة مفضوحة لتقويض هذا التيار مستغلين غضب وسذاجة بعض الشباب الذي يتوهم المسكين أنه هومن أطاح بمرسي، ويمكنه تكرار التجربة ذاتها في هذه الدول. وللعلم فالوهابية بشقيها العلمي الذي ينأى بنفسه عن السياسة، أوالجهادي الذي انحرف إلى الإرهاب واستحل الدماء والأموال والأعراض وجلب الخراب والدمار أينما حل، هي حركة إسلامية نشأت في الجزيرة العربية نتيجة لتحالف بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد أبوالسعود لمحاربة الشرك والبدع، والعودة بالمسلمين إلى الكتاب والسنة وعمل السلف الصالح، على أن يتولى الشيخ المسائل الدينية والأمير الشؤون العسكرية والسياسية.. ورست المملكة السعودية على هاتين الدعامتين الدينية ممثلة في الوهابية والسياسية ممثلة في آل سعود، ويرمز العلم السعودي إلى هذا التحالف في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويرمز السيفان إلى السلطة السياسية ولا زال آل الشيخ أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب هم من يتولى إلى اليوم الإفتاء والشؤون الدينية والحسبة في حين يتولى آل سعود الحكم في ما يشبه نوع من التقاسم بين السلطة الدينية والسلطة السياسية. ومن المفارقات أن العلمانيين الذين يدعون الحداثة والليبرالية والديمقراطية ويتهمون الإخوان بالتزمت والتخلف لا يتحرجون من التحالف مع هذا تيار الموغل في التخلف والتعصب والتزمت، والذي يقصي نصف المجتمع ويعتبر وجه وصوت المرأة عورة، والديمقراطية بدعة وافدة من الغرب..يرفض كل ما يتصل بها من قيم وممارسات وآليات، والسلفيون ليسوا أقل تناقضا حيث يرمون هم كذلك الإخوان بالبدعة والتساهل والتسيب بل والكفر أحيانا، ولكنهم لا يتورعون عن لتحالف مع غلاة العلمانيين الذين يعترضون على حكم الشريعة ويطالبون بفصل الدين عن الدولة. وهذا ليس أول تناقض لهم، فقد بادر سلفيو مصر الذين كانوا يرفضون الديمقراطية إلى تأسيس حزب النور وخاضوا الانتخابات وسيروا المظاهرات وها هم اليوم يؤيدون الانقلاب، وهم من كان يرفض التحزب ويقول بحرمة الخروج عن الحاكم الظالم وإن جلد ظهرك، فسبحان مغير الأحوال، ويا ليت شعري، كيف يمكن تسويغ الخروج على مرسي الرئيس الشرعي المنتخب ولا يجوز الخروج على الحاكم المغتصب. وكان الأجدر بهم ترك التنافس بين الفرقين يستمر في طابعه السلمي ويأخذ مجراه الطبيعي من خلال التدافع الفكري والديني والسياسي والانتخابي ومقارعة الحجة بالحجة وترك الحرية للمسلمين لينحازوا أولا ينحازوا لهذا التيار أوذاك، بدل من الإستقواء بالعسكر والخارج واللجوء إلى العنف والرشوة لإزاحة الخصم، وتكون السلفية بهذا الموقف العدائي تجاه الإخوان قد فتحت جبهة جديدة كانت في غنى عنها، إلى جانب جبهات خصومها التقليديين: الشيعة والطرق الصوفية عدوها التاريخي اللدود والتيارات الديمقراطية الحقيقية وليست تلك المدعية. الصراع على النفوذ في المنطقة في ظل تنامي الدور الإيراني والخوف من تمددها ونفوذها، حيث لم ينظر بعين الرضا والارتياح إلى محاولات التقارب بين مصر وإيران والزيارات المتبادلة بين رئيسي البلدين، وهوما لم يقدم عليه مبارك طوال حكمه،إضافة إلى سياسة التعاون والتقارب مع دولتي قطر وتركيا. البائع: وهو متعود على البيع، فقد سبق للسادات أن باع القضية الفلسطينية في كامب دافيد، وباع سلفه مبارك الدعم العسكري في حرب الخليج،كما باع غزة وأحكم حصارها، وليس من الصدفة أن أول إجراء تم اتخاذه بعد الانقلاب هوإعادة إغلاق معبر رفح وإطلاق حملة إعلامية شعواء على الفلسطينيين في رسالة واضحة لإسرائيل التي التقطتها بسرعة فائقة فردت التحية بأحسن منها حين اعتبرت زعيم الانقلاب بطلا إسرائيليا قوميا كما ورد في صحيفة إسرائيلية.فضلا عن الشروع في العودة إلى طاولة المفاوضات والتي تصب حتما في مصلحة إسرائيل على حساب الثوابت الفلسطينية في ظل ضعف عرابي غير مسبوق. أما الثمن فمجزٍ: مالي وسياسي وإعلامي ودبلوماسي، وما حفنة المليارات التي تم تسددها إلا عربون مقدم في انتظار المزيد، ويشكل الاعتراف السريع بالنظام الجديد رسالة تأييد صريحة للانقلاب، فضلا عن تسويق الانقلاب والشفاعة له عند الأمريكان والغربيين، كما تم تسخير الترسانة الإعلامية الهائلة لصالح النظام الجديد والتهجم على مناوئيه بشكل ممجوج يثير التقزز والغثيان، متجاوزا كل الحدود الأخلاقية والمهنية والقانونية، والحمد لله أن الجزائريين محصنين من هذا التضليل لسابق معرفتهم بأساليب هذه الجوقة التي تفننت في الإرجاف والكذب أثناء حملتها المسعورة ضد الجزائر إثر مباراة أم درمان التي أهلت الفريق الوطني الجزائري لكأس العالم. أما السلعة فتتمثل في الانقلاب والتخلي عن الثورة وكل ما تحمله من معاني وقيم والعودة إلى العهد القديم وإن بوجوه وأساليب جديدة. هناك نكتة طريفة يمكن إسقاطها على المشهد الحالي، فحواها: أن في العصور الوسطى حين كانت الكنيسة تبيع صكوك الغفران للمذنبين، استاء أحد الأثرياء الظرفاء من هذا الدجل الذي يستخف بعقول المؤمنين، فأراد أن يضع حدا لهذه الممارسة بكشف سفاهتها، فعرض على الكنيسة شراء جهنم، ورغم غرابة هذا العرض، ولأن الطلب كان على الجنة وليس جهنم، وافقت الكنيسة وأنجزت الصفقة، ولكن بمجرد أن شاع خبر البيع حتى أصاب الكساد سوق صكوك الغفران، وأعرض المذنبون عن شرائها، لثقتهم في دخول الجنة، لأنه مع بيع جهنم لم يبق سواها. يا ليت أمراء الخليج يقتدون بهذا الثري، فيغيروا وجهة هذه المليارات التي تنفق في إثارة الحروب والفتن وشراء الانقلابات وبيع كل ما هوجميل، إلى الدفاع عن مقدسات هذه الأمة التي تتعرض يوميا للانتهاكات الإسرائيلية، واستعادة مجدها وحضارتها التي أضاءت المعمورة طوال سبعة قرون، ويتكرمون بشراء هذا الجحيم الذي يصلاه العرب والمسلمون كل يوم جراء الفقر والبؤس والاحتلال والتخلف والشعور بالذل والعار، بدلا من محاولة شراء الربيع لأنه غير قابل للبيع. بقلم محفوظ الوناس